عريب الرنتاوي
ثمة من المؤشرات ما يكفي للاستنتاج بأن “داعش” بدأ يواجه مأزقاً وجودياً في سوريا والعراق... لا يعني ذلك، أن التنظيم الأكثر دموية وتشدداً، قد دخل في مرحلة النزع الأخير، أو ان الحرب عليه، ستكون نزهة قصيرة ... لكن المؤكد أن التنظيم أصبح يجد صعوبة في البرهنة على مقولته الشهيرة “باقٍ ويتمدد”، وأنه يجد صعوبة أكبر في الحفاظ على مناطق سيطرته، أو السيطرة على عناصره ومجاميعه “الجهادية”.
ليس ما حصل في “الرطبة” و”هيت” سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد الآخذ في الذوبان ... “داعش” لا يعرف إعادة الانتشار، قتاله انتحاري، سعياً إلى إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ... هذه المرة، يرتضي التنظيم “من الغنيمة بالإياب” ... قبلها، كانت الفضائيات ترصد طابوراً يكاد لا ينتهي، من المنشقين عنه في شمال شرق سوريا، بحثاُ عن فصائل أخرى، أو عودة للمنازل والديار.
عمليات الإعدام الجماعي التي ينفذها التنظيم ضد الذين “ولًوا الأدبار” من مقاتليه، تكاد تكون خبراً عادياً متكرراً ... أحياناً تجري إعدامات جماعية لعشرات منهم دفعة واحدة ... حالات الهرب لكوادر وقيادات، بدأت مبكراً وهي في تزايد اليوم ... الانتقال إلى ساحات أخرى، كليبيا على سبيل المثال، يدرجها التنظيم في عداد “المناقلات الداخلية”، بيد أنها مسعى معروف، تسعى إليه التنظيمات والفصائل للحفاظ على “عمودها الفقري”، ولتفادي “الضربة الماحقة”.
أكبر الفضائح التي تظهر “الخلخلة” الداخلية في صفوف التنظيم الذي كان حديدياً، تمثلت في تسريب معلومات واستمارات لأكثر من 22 ألف “مجاهد” من التنظيم، مع معلومات دقيقة عنهم، وعن مجنديهم والذين زكّوهم من أصدقاء التنظيم وداعميه، وفيها تفاصيل عن كيفية تجنيد التنظيم لعناصره، والشبكات التي تقوم بذلك، والأساليب المتبعة، والمعلومات التي تكتسب أولوية بالنسبة للتنظيم عن عناصره الجديدة.
في العراق، يخسر التنظيم معركة الأرض باستمرار، نصف المناطق التي سيطر عليها زمن “البقاء والتمدد” بالجملة، يفقدها اليوم بالمفرق ... ووتيرة التراجعات والهزائم تزداد سرعة و”درامية”، حتى أن الدكتور سليم الجبوري توقع من موقعه، أن يجري تطهير الأنبار من داعش في غضون أيام... البيئة السنيّة، لم تعد بيئة حاضنة بعد مسلسل الفظائع الذي قارفه التنظيم بحق أبنائها وبناتها... الوضع في سوريا، ليس سهلاً على داعش، قوات سورية الديمقراطية تقضم مناطقه بالتدريج، والجيش السوري يخوض معه المعارك على أطراف ريف حمص الشرقي والريف الشمالي الشرقي لحلب، وثمة نجاحات على هذه الجبهات يحققها خصوم التنظيم، بدعم جوي منقطع النظير، تارة من التحالف الدولي وأخرى من القوات الجوية والفضائية الروسية.
التنظيم يدرك هذه المستجدات تمام الإدراك، وهو يسعى إلى التعويض عنها بعمليات ذات طبيعة استعراضية ... على تخوم مناطق انتشاره، أو بعيداً عنها ... وليس مستبعداً أن يكثف ضرباته خارج الحدود، في عمليات دعائية في دول مجاورة وبعيدة، هدفها رفع الروح المعنوية لمقاتليه ومنتسبيه من جهة، والإبقاء على صورته المتوحشة، المثيرة للرعب، من جهة ثانية.
بالمعنى العسكري والاستراتيجي، بدأ التنظيم يفقد مكانته، وثمة ما يدعو للاعتقاد بان زمن انهيار دولته، قد أزف، ونهاية “الخلافة” مسألة وقت لا أكثر ولا أقل ... لكن التنظيم على المستوى الأمني، ما زال يمتلك القدرة على التهديد، وإلحاق الضرر، بل ويمكن القول، إنه يصبح أكثر قسوة وخطورة مما كان عليه من قبل، أقله للتعويض عن خسائره الميدانية، ولترميم صورته الردعية.
الحال بالنسبة لجبهة النصرة لا تختلف كثيراً ... مسارا التهدئة والمفاوضات، يحاصرانها ويشددان الخناق عليها ... نظرياً، كل من يوافق على التهدئة، هو خصم مرجح للنصرة، وقد وافقت على التهدئة عشرات الفصائل المسلحة، التي ارتبطت بعلاقات ما مع النصرة، في زمان أو مكان معينين ... اليوم، يبدو تحالفها مع أحرار الشام تحت مسمى جيش الفتح، على المحك الأخطر ... أمس قامت النصرة بتصفية “الفرقة 13” المدعومة غربياً والمصنفة معتدلة ... هذا المسار سيتواصل، بدءا من جبهة إدلب، وصولاً للجبهة الجنوبية ...قد لا يضطر النظام وحلفاؤه لمقاتلة النصرة، فهي تجد نفسها في مرمى الفصائل الأخرى على بعض الجبهات، وفي مرمى داعش في جبهات أخرى (القلمون الشرقي)، وفي جميع مناطق وجودها، تجد نفسها في مواجهة رأي عام غاضب بدأ ينفس عن غضبه بالتظاهرات المناهضة والمصالحات والتهدئات.
المعركة مع الإرهاب ما زالت طويلة، صعبة ومكلفة، بيد أن الخط البياني للإرهابيين في تراجع، أقله في سوريا والعراق، أما في ساحات أخرى، كليبيا واليمن، فتلكم حكاية أخرى، لها قواعد اشتباك مغايرة وشروط محلية وإقليمية مختلفة.