بقلم : عريب الرنتاوي
يثير التقارب الروسي – الأمريكي في سورية وحولها، مخاوف شديدة لدى أوساط في المعارضة و”الائتلاف”، ولقد عبر ميشيل كيلو في مقال أخير له عن هذه المخاوف بصورة لا تحتاج إلى شرح وتوضيح ... فقد سقطت نظرية أن “المعارضة من حصة الولايات المتحدة” مثلما أن “النظام من حصة روسيا” ... النظام ما زال من حصة روسيا، بيد أن الولايات المتحدة وجدت حصتها في مكان آخر على ما يبدو: قوات سورية الديمقراطية (الحركة الكردية السورية) ... كيلو الذي سبق وأن صعد قمة شجرة ذات “صباح خليجي”، يعود فيقترح حواراً مع روسيا ومعارضة الداخل و”أطراف من النظام” لتفادي السيناريو الأسوأ الذي ينتظر المعارضة.
قبول واشنطن بعد طول مراوغة وتردد، التنسيق مع موسكو لمحاربة “النصرة” إلى جانب “داعش”، أمرٌ يثير أشد القلق في أوساط المعارضة، إذ ينذر بتحولات كبيرة في المواقع والمواقف والتحالفات على مختلف الجبهات الشمالية المفتوحة، ذلك أن متطلبات هذا التفاهم بين الدولتين “الراعيتين” للأزمة السورية، من شأنه أن يملي على ما من يوصفون بـ “المعارضة المعتدلة”، فك ارتباطهم عسكرياً وسياسياً، والأهم، جغرافياً مع “النصرة”، المهمة التي تبدو صعبة حدّ الاستحالة، وقد يترتب عليها تقويض ما تبقى من الوجود العسكري لـ “المعارضة المعتدلة”.
وزاد الطين بلّة، أن باريس، أكثر العواصم الدائمة في مجلس الأمن حماسة لدعم “المعارضة المعتدلة” وانتقاداً لروسيا لاستهدافها “جيش الفتح” (إقراء النصرة)، عادت على لسان رئيسها لدعوة كل من موسكو وواشنطن، لتركيز ضرباتها على “النصرة” كذلك، حتى لا يصبح الفرع السوري للقاعدة، المستفيد الأكبر من الضربات الموجعة التي يتعرض لها “داعش”، وفرانسوا هولاند، تعهد شخصياً بزيادة إسهام فرنسا في “المجهود الحربي” الهادف ضرب المنظمتين الإرهابيتين معاً، بعد حوادث باريس وبروكسل ونيس.
والحقيقة أن تاريخ الأزمة السورية على امتداد السنوات الخمس الفائتة، هو ذاته، تاريخ الخيبات المتكررة والرهانات الطائشة للمعارضة السورية ... فمنذ الأشهر الأولى لاندلاع هذه الأزمة، انعقد رهان المعارضة السورية (المجلس الوطني السوري) على التدخل العسكري / الأطلسي في الأزمة السورية، وإعادة انتاج سيناريو 2003 في العراق، ومن دون أن تدرك أعمق الإدراك، اختلاف التجربتين والسياقين والظرفين التاريخيين.
وأذكر أن سفيرة دولة عظمى لدى المعارضة، وهي الصفة التي مُنحت لهؤلاء الدبلوماسيين بعد قطع علاقات بلدانهم مع النظام السوري، تساءلت مازحة ذات “غداء عمل”، إن كانت لديّ وسيلة سحرية لإقناع الأصدقاء في المعارضة السورية، بأن تدخلاً من هذا النوع، لن يحدث، لا الآن ولا بعد حين ... وأذكر لقاءات عديدة شارك فيها دبلوماسيون دوليون ووفود من المعارضة، كيف اجتهد الفريق الثاني في محاولة إقناع الفريق الأول للتدخل عسكرياً في سوريا، وكيف ردّ الفريق الدولي بكثير من الحزم و”القطع” بأن تدخلاً كهذا، لن يحصل.
ولقد دفعتني تلك اللقاءات والاجتماعات وما دار فيها، إلى كتابة مقال في هذه الزاوية بالذات، وقبل أكثر من عامين، تنبأت فيه ساخراً بحدوث التدخل العسكري الأمريكي – الأطلسي في سوريا، ولكن لضرب خصوم النظام السوري وليس لاستهداف قواته، وقلت إن أول غارة أمريكية على سوريا، ستكون لضرب خصوم النظام، الذي أخذوا يتدثرون بعباءات “السلفية الجهادية”، ويفرضون طابعهم الخاص على مجمل المعارضات السورية، وهذا ما حدث على أية حال.
اليوم، وبعد أن تحوّلت أوروبا إلى ساحة لحروب “داعش” وعملياتها، ومع كل هجوم إرهابي في مدينة أوروبية تنفذه “خلية نائمة” أو “ذئب مستوحد”، تتزايد فيها فرص توسيع نطاقات التدخل العسكري الأمريكي – الأطلسي في سوريا، ومن بوابة ضرب “داعش” و”النصرة”، ويتراجع إلى الخلف “شرط إسقاط النظام وتنحي الأسد أو تنحيته”، وتتلقى نظرية “الأسد سيسقط سلماً أم حرباً” ... ويقترب الغرب أكثر فأكثر من وجهة النظر الروسية، ويصبح التنسيق حاجة غربية أكثر مما هو حاجة روسية أو سورية ... وترتفع كلفة دعم “المعارضة المعتدلة”، فيصبح المطلوب منها، لا “الانفصال” عن “النصرة” بل ومقاتلتها إلى جانب مقاتلة “داعش” ... وربما لهذا السبب بالذات، تصبح دعوة ميشيل كيلو وآخرين في المعارضة، لتغيير جذري في مواقف المعارضة وتحالفاتها وأولوياتها مفهومة تماماً.
ومما زاد “المشهد السوري المعارض” تعقيداً على تعقيد، أن تركيا، الحاضنة الأهم، سياسياً وجغرافياً وعسكرياً وأمنياً للمعارضات على اختلاف مرجعياتها، بمن فيها “داعش”، تعيش حالة انكفاء داخلي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة ... فالبنتاغون الأمريكي يشكك في إمكانية الاعتماد على الشراكة مع الجيش التركي، الموضوع الآن في قلب دائرة الاستهداف “الأردوغاني” ... وصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية تنقل عن مصدر استخباري فرنسي أن مائة مقاتل لـ “داعش” يعبرون الحدود التركية مع سوريا أسبوعياً، وهو أمرٌ كان حدا بوزير خارجية فرنسا للتشكيك في جدية الالتزام التركي بالحرب على الإرهاب... والأهم من كل هذا وذاك، أن أنقرة المتصالحة للتو مع موسكو وتل أبيب، ألمحت على لسان رئيس حكومتها، إلى استعدادها العمل لاستعادة علاقاتها مع دمشق وبغداد، وسط “حالة إنكار” عاشها الائتلاف، دفعت برئيسة أنس العبدة، لتقمص دور الناطق الرسمي باسم الحكومة التركية، فيخرج على الملأ، نافياً تماماً حدوث أي تبديل أو تغيير في الموقف التركي من الأزمة السورية؟!
خلاصة القول، أن تطورات الأسابيع القليلة الفائتة، سياسياً وميدانياً في سوريا وجوارها، تظهر ما لا يدع مجالاً للشك، أن المعارضة السورية التي لم تتوقف عن مطاردة الأوهام والرهانات الخائبة على الولايات المتحدة والغرب عموماً، ما زالت تعيش “حالة إنكار” إزاء التطورات المتسارعة في الإقليم من حول سوريا، مع أنها هي قبل غيرها، وأكثر من غيرها، من يكتوي بنار هذه التطورات، وعلى كل الجبهات... فهل تعبر “صرخة” كيلو أو “وقفته” عن حالة يأس فردية، أم أنها ستفتح باب المراجعة والتقييم والتقويم لتيارات المعارضة الرئيسة؟ ... سؤال برسم الأيام المقبلة.