بقلم عريب الرنتاوي
الضجة حول “مزدوجي الجنسية” لم تضع أوزارها بعد، فما زالت مواقع التواصل الاجتماعي تحفل بالانتقادات اللاذعة والمحذرة من التعديل الدستوري الأخير بشأن هذه القضية تحديداً ... وصارت عبارة “مزدوج/ة الجنسية” تسبق اسم بعض المسؤولين الذي تقلدوا حديثاً مناصبهم رفيعة (أو غليظة)، تماماً مثلما تستبق عبارات من نوع “رئيس منتهية ولايته” أو “نائب مُمدد له”، أسماء بعض المسؤولين الكبار، ممن يشغلون مواقعهم “في الوقت المستقطع”.
وقد لوحظ أن الأحزاب السياسية، التي نادراً ما تتفق على شيء، قد اتفقت هذه المرة، على رفض التعديل الخاص بـ “مزدوجي الجنسية”، تستوي في ذلك أحزاب اليسار واليمين والوسط، العلمانية منها والإسلامية، لكأننا أمام إجماع وطني على وجوب مطاردة هؤلاء، وحرمانهم من بعض حقوق المواطنة، ومن بينها الحق في تقلد المناصب وإشغال الوظائف العامة، ودائماً خوفاً وحذراً من “ازدواجية الولاء”.
و”ازدواجية الولاء” لعنة لم تصب “مزدوجي الجنسية” وحدهم، فقد سبق وأن طاردت قطاعاً هاماً من الشعب الأردني كذلك، بسبب أصوله المختلفة ... ودارت بشأنها نقاشات وسجالات ساخنة ومعقدة ... وأُصدرت من وحيها قوانين وتشريعات وتعليمات، بعضها نعرفه وبعضه الآخر ما زال طي الكتمان والأدراج والصدور ... لكأننا أمام مفهوم للمواطنة، يقترب بها من “العرقية السلالية”.
مع أننا في هذه الأيام، نحتفي ككثيرين غيرنا، بفوز صادق خان بمنصب عمدة لندن، الشاب الباكستاني، الذي حملت به أمه (الخياطة) في الباكستان وولدته في لندن، ابن سائق حافلة العمومية، وزوج ابنة سائق حافلة عمومية آخر، ينتمي إلى الجيل الثاني من اللاجئين، الذي عرف كيف يندمج في المجتمع البريطاني، وكيف يحفظ هويته ويفتخر بها، المسلم الذي انتخب بفارق كبير في الأصوات، وفي انتخابات عرفت إقبالاً على التصويت أكثر من سابقتها ... لم يسأله أحدٌ عن عرقه أو دينه، أو عن جواز سفره الآخر، انتخب لنجاحه في إقناع اللندنيين، بأنه سيخدم جميع اللندنيين.
في الجدل حول ظاهرة خان، عجت مواقع التواصل الاجتماعي بصيحات التكبير والتهليل ... البعض رآه انتصاراً للإسلام والمسلمين ... والبعض الآخر ارتأى فيه، انتصاراً للعلمانية ... قسم كبير من الفريق الأول، عاد وأصيب بانتكاسة خطيرة، عندما عرف أن خان، مسلم شيعي، وتساءل كيف سيخدم هذا “الرافضي” المسلمين السنة في لندن، لم يسأل هؤلاء كيف سيخدم هذا المسلم أهل لندن جميعاً، وجُلّهم من المسيحيين ... أما الفريق العلماني، فعاد وارتأى أن العلمانية وحدها لا تفسر الظاهرة، فعمد إلى دمجها بالديمقراطية، فالعلمانيات العربية على سبيل المثال، إقصائية لمواطنيها ومن باب أولى لكل “الوافدين الجدد” على مسرح السياسة في بلدانها.
قلة قليلة تساءلت، عن الدروس المستفادة من تجربة كتجربة صادق خان على رأس مدينة لندن، ومن قبل باراك أوباما ذي الجذور الكينية والإندونيسية القريبة، الذي تربع على عرش أكبر وأقوى دولة في العالم، ونحن ما زلنا نصف صاحب البشرة السمراء بـ “العبد” الذي يستحسن إلا “يُشترى إلا والعصا معه” ونحجب الترخيص عن حزب سياسي بذريعة أن غالبية مؤسسيه من ذوي البشرة السمراء؟!
لا أحد تساءل، كيف يمكن لرجل وصل إلى لندن قبل 45 سنة فقط، وعمره الآن 45 سنة فقط، أن يتقلد أحد أرفع المناصب في بريطانيا التي كانت عظمى ذات يوم.,.. قبلها وفي سن أصغر، شغل مقعداً في مجلس العموم وفي الحكومة البريطانية، وتنقل بين سلسلة من المواقع والمناصب، من دون عقدة البشرة والدين والأصل والمنبت وغيرها.
لا أحد تساءل، ما إذا كنّا في أوطاننا العربية، جاهزين لخوض اختبارات من هذا النوع، نحن الذين لم نكف عن كيل اتهامات العنصرية للغرب، فيما نحن عنصريون وإقصائيون بحق بعضنا البعض ... نرفض المختلف في الجنس واللون والدين والعرق والمنبت، وقاموسنا حافل بعبارات التحقير والسخرية من “المختلفين”، التي لم تنجح كل عبارات “المجاملة” و”التكاذب” في طمسها وإخفائها.
فوز خان الكاسح في انتخابات لندن، يأتي بمثابة إعادة اعتبار للمسلمين في أوروبا، الذين شوه التطرف والإرهاب صورتهم وسمعتهم، وزج بهم في أضيق الزوايا وأصعبها ... وينهض كشاهد على النجاح في حفظ الهوية والاندماج في المجتمعات الجديدة في الوقت ذاته، والمؤكد أنه هبط كخبر سعيد على عقول وأفئدة ملايين المسلمين في أوروبا من غير الأصوليين والسلفيين، وحط كالزلزال على رؤوس قوى اليمين المتطرف والعنصري التي انتعشت مؤخراً في أوروبا.