«انطاح علينا»

«انطاح علينا»

المغرب اليوم -

«انطاح علينا»

بقلم - عريب الرنتاوي

لم أكن أتممت العاشرة من عمري، عندما استيقظت مذعوراً ذات صباح باكر، على وقع جلبة في البيت، يتصاعد ضجيجها على وقع أصوات الرجال الصاخبة وصيحات النساء في المنازل المجاورة ... استيقظ أبي رحمه الله في الأثناء، وهو الذي اعتاد أن يقضي الهزيع الأول من الليل يغرف ما تيسر له من بطون كتب، على ضوء «لمبة الكاز» التي طالما حرص على وضعها على مقربة من رأسه: «انطاح علينا»، كانت هذه أولى كلماته، في إشارة إلى أننا تعرضنا للسرقة.
خرجنا نبحث عن «الحرامي»، فإذا بالحارة عن بكرة أبيها تبحث عنه/ من دون جدوى ... لكنهم خلفوا وراءهم أكداساً من المقتنيات، بدأنا بفرز المسروقات المتناثرة هنا وهناك، وعرضناها أمام سكان الحي للتعرف على مقتنياتهم ... سارع أبي لالتقاط الصور القليلة التي تمتلكها العائلة، والتي كانت منثورة في «الزاروب» الخلفي لبيتنا، تدوسها الأقدام من دون عناية ... وأخذت أمي تبحث في ركام المسروقات، فوجدت معطف أبي الشتوي «الكبوت» ملقى فوق تلة من الحجارة، والحقيقة أنني كنت أمقت ذلك «الكبوت»، وتمنيت في قرارة نفسي، لو أن «الحرامي» أفلت به، فقد كنت أستيقظ في ليالي البرد القارس والظلام الدامس في مخيم الوحدات، فإذا بـ «شبح أسود» ينتظرني متراقصاً عند باب الغرفة، ولطالما احتجت لبضع دقائق، تمر كالساعات، قبل أن استعيد وعيّ، وأدرك أن ذاك الشبح المرعب، لم يكن سوى «كبوت» أبي المعلق بمسمار خلف باب الغرفة.
بدأت أمي تسترجع ملامح وجهها، وأخذت الدماء تجري في عروقها المتجمدة، فقد استعادت ثلاث مخدات من النوع المخصص للضيوف، ولا يحق لنا في مطلق الأحوال، استخدامها أو لمسها ... كانت مكسوة بـ»فتة بيضاء»، منقوش عليها بعض التطريزات اليدوية، غالباً تحاكي وروداً لم أتعرف على أصلها في الطبيعة، أما جوانب «المخدات» فكانت أمي تحرص على «تلفيعها» بقطع من «الساتان» الأحمر والأزرق، لا ألوان أخرى صادفتها في طفولتي وشبابي المبكر لهذا «الساتان».
كان من السهل التعرف على «كبوت» أبي ومخدات أمي، الأول يتميز بأزراره الخشبية الناتئة، وتطريز أمي على المخدات كان فريداً، لا يشبهه تطريز آخر، أقله في حينها ... لكن المشكلة كانت في اختلاط «بوابير» الكاز، التي جمع الحرامي، أو بالأحرى عصابة الحرامية، عدداً وافراً منها، فجميعها متشابه، ومعظمها «نمرة 3»، لكن صاحب البابور «الأخرس» كان محظوظاً، فضلاً عن كونه محظياً بذاك «البابور» الذي كان نزل للتو إلى الأسواق، وبسعر أعلى، نظير قدرته المدهشة على كتم الأصوات المدوية التي اعتدنا عليها، عند إشعال البوابير العادية، سيما بعد أن «تحمى» وتعمل بأقصى طاقتها، يساعدها على ذلك، وجود عدد من «إبر البوابير» ذات القدرة العجيبة على تسليك ممر الكاز وبخاره.
انتهت «غزوة المخيم» على سلام، لم يُلق القبض على الجناة، الذين أجمعت الروايات على أنهم «غرباء لا يشربون القهوة»، وبإحصاء سريع للخسائر، تبين أنها لم تزد عن بضعه دنانير، عثر عليها اللصوص في جيب أحد «الجاكيتات» المسروقة... لكن الحديث عن تلك الغزوة لم ينقطع لسنوات عدة لاحقة، وأضيفت إليها فصول من «البطولة» في التصدي للصوص ومقاومتهم ومحاولات تسليمهم لمخفر الشرطة، لولا صدف حمقاء، حالت دون ذلك بالطبع.
غادرت المخيم عن عمر يناهز الثانية والعشرين عاماً، قضيتها في زواريبه وأزقته الضيقة، لكن حكايات الحرامية والمتلصصين لم تنقطع يوماً ... ذات يوم، اندلعت إشاعة قوية في المخيم ومدارسه المكتظة بألوف الطلاب والطالبات، مفادها أن ثمة عصابة متخصصة بسرقة «حبال الغسيل»، فما أن تنتهي النسوة من غسل أكوام الثياب المتسخة، وتعليقها على حبال الغسيل المكشوفة لتجفيفها وتعريضها للشمس والهواء، حتى يهرع «لصوص حبال الغسيل» لجمع ما غلا ثمنه وخف وزنه، وتضاءل حجمها ... والحقيقة أن القصة، وما رافقها من أعاجيب وروايات غامضة، أثارت فضولي لتفحص حبال الغسيل في طريق الذهاب والعودة للمدرسة ... دهشت عندما رأيت أن نصف المعلق على الحبال من ملابس، تحتفظ بالإشارة ذاتها: «هدية من شعب الولايات المتحدة إلى اللاجئين الفلسطينيين»، وهي العبارة التي كانت تكتبها وكالة الإنماء الأمريكية، على أكياس الطحين المرسلة للأونروا، قبل ان يقرر ترامب قطع المساعدات عنها، وكانت نسوة المخيم، تستغل الأكياس الفارغة، فتحيكها ملابس ،لكن ختم الوكالة الأمريكية كان عصياً على الإمحاء، حتى باستخدام الصابون النابلسي او «سيرف» أو «تايد»، فيظل عالقاً عليها إلى أن يذوب القماش ويتهرأ لفرط استخدامه وغسيله .... هذا النوع من الألبسة، اختص به الذكور في المخيم، أما الإناث، فكن يستخدمن أقمشة من مشتقات «الساتان» متعدد الألوان، وكان حبل الغسيل الواحد، الممتد بطول عدة أمتار، لا يتسع لأكثر من ثلاثة أو اربع قطع من هذا النوع .
ما الذي يدفع هؤلاء اللصوص للسطو على ملابسنا المكتوب عليها «ليست للبيع أو المبادلة»؟ ... لم ننشغل بالإجابة عن السؤال، وانصب تفكيرنا الإيجابي، بالبحث عن طرق لتأمين حبالنا وحفظ ملابسنا من السرقة، وإبعاده عن عيون الفضوليين.
ولأن روح سيجموند فرويد، كانت تزور مخيمنا بين الحين والآخر، فقد سرت إشاعة ثانية، مفادها، أن ثمة عصابة من اللصوص تختص بسرقات الثياب النسائية، هنا تدخل المسألة في حيز «الشرف»، حيث يسهل إراقة الدماء أنهاراً ... لم يثبت أن اعتداءً واحداً قد حصل لسين أو صاد من الناس، لكن الإشاعة كانت كافية، لمنع النساء والبنات من نشر ثيابهن على الحبال، والاكتفاء بنشرها في زوايا البيت وقرب «الصوبة» في ليالي الشتاء، فالمسألة خرجت من طور السرقة، إلى صميم الشرف.
ليس في ذاكرة السنوات العشرين الأولى من عمري قصصاً أخرى عن السرقة غير هذه التي شاركتكم بها... اليوم تبدو الصورة مختلفة تماماً، واجد صعوبة في مواكبة «تطور السرقة» في الأردن، من حيث أهدافها وأدواتها وتكنيكها» ... نستيقظ على سطو مسلح لأحد البنوك، وننام على روايات تتحدث عن سطو «ذكي» على حساباتنا وعمليات احتيال على الميسورين منا ... لم تعد أخبار السرقة تثير الضحك عندنا، أو الضحك علينا، باتت تثير القلق وتستدعي الاستنفار ... ولم يعد حديث السرقات والمسروقات مادة للسمر في ليالي الشتاء الطويلة والمملة، بل بات قضية أمن وطني، ينخرط في بحثها الأمن بمستوياته وأجهزته المختلفة، ويتداعى لدراساتها علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية ... لم تكن ردود أفعالنا تتعدى البحث عن «المخدات والبوابير» المسروقة، لتتبعها قصص وحكايات لا تنتهي، وفي كل مرة تقال فيها، تتعرض لمزيد من التنقيح بالحذف والإضافة، اليوم يبدو الحديث الساخر أو المندهش بتكنيك السرقات، أمراً مثيراً للقلق، وقد يستدعي المحاسبة والمساءلة القانونية ... لقد تعقدت حياتنا بأكثر مما ينبغي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«انطاح علينا» «انطاح علينا»



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 05:15 2018 الأربعاء ,25 تموز / يوليو

واتساب يضيف ميزة نالت إعجاب مستخدميه

GMT 02:06 2018 الخميس ,12 تموز / يوليو

سعر ومواصفات "كيا سبورتاج 2019" في السعودية

GMT 23:49 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

وفاة أب وإبنته غرقا في نهر ضواحي جرسيف‎

GMT 23:59 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

معلول يؤكد أهمية فوز المنتخب التونسي على بنما

GMT 23:43 2018 الثلاثاء ,19 حزيران / يونيو

توقيف أحد أباطرة تهريب المواد المخدرة إلى إسبانيا

GMT 04:44 2018 الأحد ,17 حزيران / يونيو

ديكورات ريفية في مسكن أوبرا وينفري

GMT 11:41 2018 الخميس ,12 إبريل / نيسان

خطوات تطبيق مكياج ترابي مميز بعدّة أساليب

GMT 05:02 2018 الأحد ,11 آذار/ مارس

"أمن مراكش" يفك لغز العثور على جثة جنين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya