عريب الرنتاوي
من يتتبع التصريحات الصادرة عن قادة «تيار المستقبل»، يلحظ كم هي طافحة بمشاعر الحرص على «العروبة»، وكم هي محمّلة بالتأكيدات المُشددةِ على «انتماء لبنان لأمته وعروبته» ... هي موجة موجهة بلا شك، لرئيس «التيار الوطني» الحرب جبران باسيل، وزير الخارجية، وزعيم التيار ورمزه، الجنرال ميشيل عون، المرشح القوي لانتخابات الرئاسة اللبنانية ... بيد أنه لوحظ مؤخراً، ومنذ «مبادرة معراب» التي تنازل بموجبها «الحكيم» سمير جعجع عن ترشيحه للرئاسة لصالح «الجنرال»، أن جزءاً من «سهام الصحوة العروبية» بدأت تصوب إلى القوات اللبنانية كذلك.
محرك هذه الموجة، قرار باسيل في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب «النأي بالنفس» عن موجة الإدانة العربية لإيران، والتي طالت من ضمن ما طالت، حزب الله، حليف إيران وامتدادها اللبناني، ووسمه بـ «الإرهاب» ... الأمر الذي استكثره باسيل، الذي يرتبط تياره بعلاقات وطيدة مع الحزب، تمأسس على «تفاهمات مار مخايل» بين الجانبين ... مع أن الرجل، لم يتردد في انتقاد الاعتداءات على السفارة والقنصلية السعوديتين، في طهران ومشهد ... لكن نظرية « من ليس معنا فهو ضدنا» التي يجري العمل بها من قبل بعض المراكز العربية والإقليمية، لم تعد تترك هامشاً للوزير اللبناني، ولم تبق مساحة بـ «النأي بالنفس».
«المستقبليون» حاولوا التذكير بتجارب سابقة، فاشلة وانتحارية، تورطت فيها قوى لبنانية – من بينها القوات بزعامة جعجع – بمحاولات فصل لبنان عن «عروبته» و»مشرقه» ... جرى استحضار تلك التجارب لتذكير جعجع بماضيه، الذي جهد «المستقبليون» في محوه من ذاكرة بيئتهم الاجتماعية الحاضنة، وللتشديد على أن خيار عون التحالفي مع حزب الله، هو خروج عن هذه «العروبة» وطعنة نجلاء في ظهرها، ستودي بأصحابها قبل أن تمس خصومهم.
ما يهمنا في هذا السجال، ليس «استحضار العروبة عند الطلب»، أو عندما تقتضي ضرورات السجال السياسي المحلي والإقليمي فحسب، وهو أمر مزعج على أية حال ... ما يهمنا هي محاولات «إعادة تعريف العروبة وتكييفها» مع ضرورات مرحلة الانحطاط السياسي التي تمر بها المنطقة ومقتضيات اصطراعاتها المذهبية والطائفية ... فيصبح الحديث عن «العروبة» بشروطها وسياقاتها الجديدة الناشئة، أكثر إساءة لها من محاولات «التخلي» و»الغدر» التي تعرضت لها في سابقات التجارب، كما في الحالة الراهنة.
يَفترض «العروبيون الجدد» ورعاتهم الإقليميون، أن من يختلف معهم أو ينشق عليهم، هو «خارج على العروبة»، وتلكم نسخة قومية – علمانية رديئة، لخطاب «التكفير» الذي تنتهجه جماعات «إسلاموية» متطرفة، تُخرج من «الملّة»، كل من يختلف معها أو عليها ... لكأننا أمام «تكفيرية قوموية» تستعير من خطاب التطرف، بعضاً من مفرداته ومناهجه.
«العروبة» في هذا الخطاب، تُستحضر في مواجهة «الفارسية» على وجه التحديد، مع أن إرث الحركات العروبية والقومية، نشأ وتراكم في سياقات الاستقلال الوطني والقومي، بداية عن «إمبراطورية الرجل المريض العثماني»، وهنا نشير إلى الثورة العربية الكبرى، التي يُحتفى بمئويتها الأولى هذا العام ... أو في الكفاح ضد سايكس – بيكو و»وعد بلفور» التي تصادف أيضاً ذكراهما المئوية هذه الفترة، وصولاً لمرحلة التحرر الوطني في مواجهة الانتدابين الفرنسي والبريطاني والاستعمار الجديد، والموجهة الصهيونية الاستعمارية الاقتلاعية.
كل من اندرج من «عروبة» أو عروبات» في السياق المُتشكل على امتداد المائة العام الفائتة، ليس من وجهة نظر «العروبيون الجدد» سوى «قومجية»، او «عروبة بائدة» ... وحدها «العروبة» المتشكلة في مواجهة «التمدد الفارسي» هي التي يتعين الاحتفاء بها والذود عن حياضها ... يجري ذلك على خط متزامن ومتواز، مع أوسع حملات التجييش المذهبي، التي يراد بها خلق أقواس «سنيّة» في مواجهة «الهلال الشيعي» ... لكأننا أمام جدران دفاعية مذهبية سنيّة و»عروبية جديدة» يجري تشييدها على امتداد خطوط التماس» مع إيران وهلالها و»رؤوس جسورها»، وبإشراف «غرفة عمليات واحدة»، ودائماً بعيداً عن خطوط التماس القديمة، وبالأخص خط التماس مع إسرائيل ومشروعها الاحتلال التوسعي الاقتلاعي في المنطقة.
ولأن «العروبة القديمة» أخفقت في إنجاز شعاراتها ومهامها الكبرى، في الوحدة والتحرير والنهضة، ولأنها كانت إقصائية و»غير ديمقراطية» في جميع ساحات تجليها من دون استثناء، فإن «العروبيون الجدد» يبشرون لفظياً على الأقل، بـ «تحديث العروبة ودمقرطتها»، لكن مأزق «التبشير العروبي الجديد» أنه يصدر عن جهات محلية وبرعايات إقليمية، متهمة بما هو أخطر وأبشع مما اتهمت به «العروبيات القديمة» ... من التواطؤ مع المستعمر في مرحلة تصفية الاستعمار، إلى الاستنكاف عن الانخراط الجدي في الصراع العربي – الإسرائيلي، وانتهاء بفشل التنمية بمعاييرها الإنسانية الشاملة، والإخفاق في بناء دول حداثية، منفتحة على العصر بأدواته وقيمه ومعاييره.
على أية حال، لقد وصلت «العروبة القديمة» إلى خواتيم رحلتها، وكانت كالمنبت، الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لم تفلحفي إنجاز الوحدة القومية الشاملة، وأخفقت في المقابل، في حفظ كياناتها «القطرية» ومجتمعاتها ... لم تنجز تنمية ولم تأت بحرية وحياة أفضل لشعوبها ... حوّلت البلاد والعباد إلى مزارع «للقادة الملهمين المخلدين» وأنجالهم وأشقائهم وأصهارهم وأنسبائهم .... عروبة إقصائية، أخفقت في التعامل مع «التنوع» و»التعددية» المُثرية لحياة مجتمعاتنا .... عروبة تنهض على «مركزية العرب» وهامشية الآخرين.
مثل هذه العروبة، لن يكتب لها نهضة ولا استنهاض، من دون مراجعات عميقة في جذور الفكرة ومكوناتها ومناهجها وتجاربها ومآلاتها، وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا، برغم الطابع الخجول والمتلعثم الذي ميّز بعض المحاولات ... ما نسمعه اليوم، بالأخص في لبنان، الذي كان لرجالاته دوراً ريادياً في استنهاض العروبة، يمعن في تشويه العروبة ويسيء إليها، ويحيلها إلى مجرد أداة للتحشيد السياسي الإقليمي، المبني على أبشع الانقسامات المذهبية والفئوية، وعلى أبشع تجارب العلاقة بين الدولة ومكوناتها ومواطنيها، وعلى أعمق مشاعر العداء للحداثة والحرية والديمقراطية والتعددية.