الأرض لا السلطة

الأرض لا السلطة

المغرب اليوم -

الأرض لا السلطة

طلال سلمان

الأرض بأهلها، وأهل فلسطين هم الفلسطينيون. هي من تعطي أهلها الهوية والأسماء الحسنى: القدس، الناصرة، بيت لحم، الخليل، رام الله، الشجرة، حيفا، يافا، عكا، صفد، طبريا، غزة، رفح، خان يونس، اللد، أسدود، إلخ..

.. ولقد احتفل الأهل بأرضهم فكان لهم منها العيد.
الأهل في الأرض، الأرض في الأهل، لا هي تنفصل عنهم فتنكرهم، حتى لو زوّروا لها اسمها واستخرجوا لها من بطن الأسطورة اسماً لبعض البعض من قبيلة عبرت فيها ولم تتخذها وطناً لأنها قصرت عن أن تكون "شعبها". كان شعبها فيها من قبل، واستمر شعبها فيها من بعد، هو يعيش بها ولها، وهي تعيش به وله.
الأرض هي المصدر. تعطي أهلها الدور. تعطيهم لون البشرة وبريق العينين. تعطيهم اللغة والصوت. تعطيهم القمح والثمر.
الأرض تعطي ولا تأخذ. تعطي المناخ والصحة. تعطي أهلها الأنفة والشموخ الذي يستعصي على الانكسار.
الأرض تعرف أبناءها فترفعهم، وتعرف أصدقاءها فتحتضنهم، وتعرف أعداءها فتنبذهم وتمنع عنهم هويتها فيعيشون أغراباً، دخلاء، لا أجدادهم ذابوا في ترابها المقدس ولا أحفادهم سيحملون اسمها. سيعيشون طارئين، "عابرين في كلام عابر".
وفلسطين قلب الكون.. لطالما جاءها الغزاة ثم انصرفوا مهزومين أو ذابوا فيها.
ولأنها على هذه الدرجة من الخطورة فقد تعرضت للغزو مراراً. وفي مراحل معينة من تاريخها الذي هو تاريخ البشرية، مكّن الصراع بعض الذين دخلوها بصليب من حديد أن يدخلوها فيقيموا فيها لحين من الدهر، ثم ولّوا مهزومين... هزم الصليب الذي استخدم لتمويه الاحتلال بينما المصلوب فيها معلق على خشبة ما زال ينادي: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!
[ [ [
ظلت فلسطين، دائماً، أكبر من سياسييها، بل وأكبر من الساسة العرب أجمعين.
في مرات نادرة اقترب بعض رجال التاريخ من قضيتها وحاولوا الارتفاع إلى قداستها فأعجزتهم أسباب تكوينهم الذاتي.
أما في آخر قمة عربية فكادت فلسطين تسقط سهواً من المناقشات كما من المقررات.
فقد اكتشف القادة المذهبون في القمة بلداً خطيراً بفقره وتعاسته عبر التاريخ اسمه اليمن، الذي كان سعيداً ذات يوم، وكانت فيه مملكة سبأ وملكتها بلقيس. وأراد القادة المذهبون أن يمارسوا مع بلقيس خدعة الملك سليمان التي كانت واحدة من أجمل صور الكاريكاتور في التاريخ. لكن الزمان غير الزمان، والأساطير لا تصمد أمام الحقائق. ولعلهم نجحوا في طمس القضية المقدسة، وقفزوا من فوق فلسطين جميعاً ليقاتلوا الجن في جبال اليمن وهضابها وخلجانها الخطيرة وصولاً إلى مضيق باب المندب الذي متى أقفله "الجان" مات الناس جوعاً.
أنشأ القادة المذهبون حلفاً مقدساً من فقراء العرب، وأطلقوا طائراتهم التي تخرج لأول مرة من مرائبها لتدك "العصاة" الذين تسللوا من "بلاد المجوس"، فهم أولى بالعداء من الإسرائيليين.
إذن فعند السعودية طيران حربي بطائرات أميركية وبريطانية وفرنسية وطيارين بهويات متعددة يجوبون آفاق اليمن بلا مخاطر، يتخيّرون أهدافهم ويقصفونها وهم آمنون، إذ لا مقاومة: فلا الطيران الحربي اليمني مؤهل للمواجهة ولا السلاح المضاد الفعال متوفر..
ترى هل خطر ببال أي من هؤلاء الطيارين أن العدو الحقيقي لبلادهم ودينهم وحاضرهم ومستقبل أبنائهم في مكان آخر، وفي الجهة المقابلة وأنهم لو استداروا لباتوا فوق فلسطين ولكانت معركتهم مشرفة، ولكانوا قد أسهموا في كتابة تاريخ جديد لهذه الأمة؟
قال لي الرجل العجوز: لقد شرفني ولدي. خرج من البيت في بيروت، أواسط الستينيات، واتجه إلى الأردن بصحبة رفيق له يعرف الطريق. وهناك انتمى إلى المقاومة الفلسطينية ليقاتل العدو الإسرائيلي. ولقد استشهد وهو في الطريق إلى فلسطين. وحين أعيد إلينا في كفنه استقبله لبنان من عند نقطة الحدود مع سوريا، مروراً بقرى البقاع والجبل التي خرجت لتحيته، وصولاً إلى بيروت التي ازدحم أهلها في ميادينها وعلى الطريق يتزاحمون لحمل جثمان الشهيد... وشارك الجميع، مسيحيين ومسلمين، في الصلاة عليه، ثم في تشييعه إلى مثواه الأخير، يملأهم الفخر بهذا الفتى.
صمت العجوز لحظات ثم أضاف: كان يتمنى أن يستشهد في فلسطين وأن يدفن في ثراها. ولكننا الآن نعرف أن فلسطين هي الأمة جميعاً، ولو أن بعضنا قد أضاع الطريق إليها. لقد خاض العرب وهم الآن يخوضون الكثير من الحروب الغلط، في المكان أساساً كما في الزمان. إنهم ضائعون عن هويتهم وعن قضاياهم، يقتتلون في كل مكان وينسون عدوهم، فيضعفون ويزداد قوة بضعهم.
[ [ [
... وقديماً، جاء المجاهدون العرب والمسلمون إلى فلسطين من أربع رياح الدنيا... وهم جاءوا ليتشرفوا بالجهاد إلى جانب أهلها وليس كبديل منهم. وكان معظم هؤلاء يكثرون من الصلاة والدعاء لكي يطعمهم الله الشهادة من أجل فلسطين فيها.
ولقد جاءوا لأن أهل فلسطين كانوا يقاتلون ضد الانتداب البريطاني الذي قام على حراسة المشروع الإسرائيلي، كما كانوا يواجهون المستوطنين ومن خلفهم الجنود البريطانيين.. ولم يجيئوا لكي يقاتلوا بالنيابة عن الفلسطينيين.
وبطبيعة الحال فقد ظهر بين الوجاهات الفلسطينية من ضعف أو أغراه اليهود بأثمان مرتفعة لبعض من الأراضي الشاسعة التي يمتلكون فباعوها منهم، لكن الفلسطينيين البسطاء، الطيبين، الأصيلين الذين كانوا ينظرون إلى الأرض على أنها أمهم وشرفهم ومصدر حياتهم ومنبع عزتهم لم يبيعوا شبراً واحداً: "نحن من أرض الأنبياء.. لقد شرفتنا الأرض المقدسة فولدنا فيها".
هي الأرض عنوان القداسة، خصوصاً وقد باركها قافلة من الرسل والأنبياء الذين وُلدوا فيها وعاشوا أو عبروا منها إلى ما جاورها... وبين الناصرة وبيت لحم والقدس مدارج السيد المسيح، وفي القدس المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
هي الأرض، شرف الإنسان ومصدر كرامته. هي التي تعطيه هويته ولون بشرته، وهي هي مصدر رزقه، هي عنوانه بين العالمين، باسمها يكنى فيعرف.. فكيف إذا جاءت على مثل هذه القداسة، يأتيها البشر من أقصى الأرض للتبرك بملامسة حجارتها والمشي في دروب سار عليها من قبل الرسل والأنبياء.
[ [ [
لهذا كان للأرض، أرض فلسطين بالتحديد، يوم عيد.
لا أعياد بلا فلسطين. هي مصدر الفرح، مصدر البركة، منبع القداسة، وهي والدة الأعياد.
هي الأرض المقدسة بدماء أهاليها الذين افتدوها بأرواحهم عبر التاريخ.
وهي الأرض المباركة في الأديان السماوية الثلاثة.
لكن أهلها هم الأصل.
والمؤامرة المتواصلة منذ حوالي مئة عام وحتى اليوم هي تلك التي تستهدف أهل فلسطين، وترمي إلى استبدالهم بمن لم يعرفها ولو في زيارة، أو حتى في أحلامه.
والأرض هي التي تؤكد لهذه الدنيا العربية هويتها. ففلسطين هي القلب، والاحتلال الإسرائيلي قد شطرها، مشرقاً ومغرباً، وأضاع هويتها فصار اسمها "الشرق الأوسط".. وصار "العرب عربين: عرب المشرق وعرب المغرب". ثم صار عرب المشرق أشتاتاً طوائف ومذاهب وأعراقاً مختلفة، وأخذهم العجز إلى الحروب ضد الذات. وصار عرب المغرب أخلاطاً، فهرب بعضهم إلى هوية البربر، ورأى آخرون أنهم أفارقة، واكتفى قسم ثالث بالتقوقع في كيانيته.
الأرض لأهلها. الأرض بأهلها. شرط أن يكون الأهل جديرين بأرضهم.
وستظل إسرائيل تحتل القلب والفكر والوجدان والأرض، الحاضر والمستقبل، طالما ظل العرب منقسمين من حولها، مختلفين حول "أساليب" تحرير أرضهم المقدسة.
تكون للعرب الأرض، فلسطين، فيكون لهم مستقبل.
والطليعة شعب فلسطين الذي أخذته السلطة بعيداً عن هدفه المقدس بوهم السلطة.
والسلطة طريق للخروج من فلسطين وهي للدخول إليها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأرض لا السلطة الأرض لا السلطة



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 15:03 2014 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الجوز " عين الجمل " لا يعلمها إلا القليلون

GMT 12:28 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الفرسان يتطلعون للفوز بثاني جولات بطولة "هذاب"

GMT 06:07 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

سيت الأفضل لقضاء شهر عسل لتميزها بالمناظر الجذابة

GMT 03:45 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

مديرة الأزياء جين ماكفارلاند تستعرض مجموعة كافالي

GMT 06:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تصنف المغرب أبرز مُصدّري اليهود منذ استقلال المملكة

GMT 00:00 2014 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

" أوراق بوكافر السرية " جديد الكاتب ميمون أم العيد

GMT 23:10 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رشيد غفلاوي سعيد بانضمامه إلى فريق الساحل النيجيري

GMT 23:08 2017 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

المهاجم فيصل عجب يثبت جدارته مع نادي التضامن

GMT 17:14 2016 الجمعة ,01 إبريل / نيسان

سر إغماض العيون أثناء تبادل القبل على الشفاه
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya