بقلم - عبد الرحمن الراشد
اشتهرت صحيفة «نيويورك تايمز» بتشددها في التثبت من صحة أخبارها إلى درجة كان يقال إنها لا تجد أخباراً تصلح للنشر.
على أي حال، هذه من خرافات الإعلاميين، فالصحيفة، كمثيلاتها، تتشدد متى ما رغبت، وتتراخى متى ما ناسبها ذلك. وربما لا يوجد صحافي في العالم بلا رأي، أو ميول. وهذا نراه في الخلاف مع الرئيس ترمب، الذي تحول إلى حملة شتم ورمي أوساخ، وخرجت التغطية عن أصول المهنة.
الصحيفة النيويوركية نشرت تقريراً يقول إن السلطات المصرية ليست ضد قرار ترمب بنقل السفارة إلى القدس بخلاف ما أعلنته. وأرفقت تسجيلات لضابط مخابرات ينسق مع مذيعين مصريين يُبين سياسة حكومته ويطلب منهم أن يوافقوها. وهي، إن كانت صحيحة، مثل كثير من أخبار الصحيفة أخيراً عن المنطقة، تبدو من نشاط العلاقات العامة القطرية، التي تقوم باستخدام الصحافيين لنشر الصحيح والمكذوب.
وعندما استمعت إلى التسجيلات لم أجد موقفاً سياسياً جديداً. كل الدول العربية وافقت على المبادرة العربية التي تجيز صراحة القدس الغربية عاصمة لإسرائيل، والاعتراف بها دولة. وعندما أصر ترمب على تفعيل قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كل الحكومات العربية عارضته. رفضته لكنها تدرك أنها لا تستطيع منعه، وفي الوقت نفسه لا تريد الوقوع في الفخ القطري والإيراني الذي يسعى لتحريض شعوب المنطقة لأسباب لا علاقة لها بفلسطين والقدس، بل جزء من لعبة سياسية إقليمية. المزايدات والتحريض أسلوب قطر منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة على والده في عام 1995، ولا يزال يحكم من خلف الستار. لا ننسى كيف كانت الغارات العسكرية الأميركية تقصف مواقع «القاعدة» في العراق وأفغانستان منطلقة من قاعدة في قطر، وفي الوقت نفسه كان إعلام قطر يحرض على الجهاد ضد الكفار الأميركيين. النفاق والتزوير مستمران إلى اليوم. كتاب «فاير أند فيوري» ترجمته الدوحة إلى اللغة العربية على عجل، وقامت بنشره على «السوشيال ميديا»، وعند مراجعة النسخة القطرية بالأصلية نجد أن الكتاب من 260 صفحة تحول إلى 120 صفحة فقط، لأن قطر اختارت الفصول التي تأتي على ذكر السعودية سلباً، وحرفته وفق هواها. فالتحريف أمر مألوف، حتى عند نقل خطب الرئيس ترمب حية على الهواء، كان المترجم يضع على لسان الرئيس ما لم يقله بما يناسب موقف قطر. هذه هي مصداقية المصادر التي تعتمدها «نيويورك تايمز».
لقد ملأ القطريون والإخوان المسلمون الفضاء ووسائل التواصل بالنفايات الإعلامية المزورة؛ مقابلات مع هنري كيسنجر، ومتوفين مثل برجينسكي، وتحليلات منسوبة كذباً لصحف ألمانية وبريطانية. وتستخدم الصحافة الغربية المتلهفة لقصص مثيرة والمستعدة لنشرها دون الإشارة إلى مصادرها التي لو وضعت لفقدت قيمتها.
دول، مثل مصر، تحتاج إلى معالجة القضايا الكبرى بحساسية شديدة وليس مثل قطر يسهل عليها أن تجمع القواعد الأميركية ومكتب طالبان والشيخ القرضاوي. والإخوان المسلمون، مع حليفهم القطري، يحاولون منذ عامين إشعال الشارع المصري بأي وسيلة، وتحت أي شعار، سواء الخبز أو القدس، المهم هو زعزعة الحكم الحالي. والإخوان هم من شنوا حملة تحريض ضد الرئيس الراحل السادات عندما وقع اتفاق كامب ديفيد، حتى اغتيل. ويستخدمون فلسطين بغرض الابتزاز لأهداف لا علاقة لها بفلسطين، وتضخيم أهمية مكالمات الهاتف المسجلة تأتي في هذا الإطار.
ليس صعباً فهم موقف مصر، فهي تدرك عواقب تحدي إدارة ترمب على الفلسطينيين. فالولايات المتحدة من أكبر الداعمين لبرامج إغاثة اللاجئين، والوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل. ومصر تدرك أنه يمكن معالجة قرار ترمب، كما عولج قرار الكونغرس في 1995 الذي أمر بنقل السفارة ثم لم ينفذ. فالسفارة لن تنقل قبل خمس سنوات، وخلالها، قد يغير ترمب رأيه، أو يأتي رئيس آخر يعطل التنفيذ. وبالتالي لا توجد مصلحة لهذه الحكومات في الدخول في صراع خاسر فقط لإرضاء المحرضين. وبسبب تحريض قطر والإخوان قُتل 15 فلسطينياً وأصيب ستمائة في مواجهات مع قوات الاحتلال بلا مردود.
ثم إنه من السذاجة الاعتقاد أن مكالمات هاتفية لوسائل الإعلام قادرة على إنهاء معوقات المفاوضات، سواء باعتماد عاصمة بديلة أو توطين اللاجئين. هذه مسائل معقدة، ولن تحل ما دام نتنياهو على رأس الحكومة.
هدف القطريين، والإخوان المسلمين، من حملاتهم، تصوير قيادات الدول التي على خلاف معهم بأنها خائنة والتحريض عليها لقتلها أو الانقلاب عليها. هذا ما فعله الإخوان مع السادات من قبل.
أتفهم أن يسوق أي صحافي، كما تفعل «نيويورك تايمز»، للرسائل القطرية باستمرار فقط لو أنه يوضح أن مصادرها قطرية، هذه بحد ذاتها تكفي لفهم القصة.