بقلم : عبد العالي حامي الدين
استغربت كثيرا وأنا أقرأ على موقع “اليوم 24” مقالة للصديق العزيز والمثقف المغربي محمد جبرون تحت عنوان: “حزب العدالة والتنمية ومواجهة التحكم..في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي”، وهي مقالة يقدم فيها الباحث قراءة خاصة لطبيعة العلاقة التي سادت بين الحركة الوطنية وبين المؤسسة الملكية منذ الاستقلال إلى الآن، والتي عبرت حسب رأيه عن فشل العقل السياسي المغربي في مغرب الاستقلال في وضع إطار نظري لنظام سياسي حديث يتلاءم مع الخصوصية المغربية في أبعادها المختلفة، كما يقدم قراءة نقدية لمقولة الانتقال الديمقراطي ويعتبرها غير صالحة لتأطير المبادرة السياسية الحزبية، كما يتساءل عن مدى سلامة خيار مواجهة التحكم كعنوان للمرحلة السياسية الحالية، وهل يأخذ بالاعتبار ماهية التحكم والخصوصية المغربية في بعدها «السياسي – التاريخي»، أم أنه خدمة غير مباشرة لقوى التحكم– بوعي أو بدونه– تيسر لها سبل إغلاق القوس الديمقراطي؟.
ويختم مقالته بدعوة صادمة لحزب العدالة والتنمية مفادها: “التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي والمساهمة في تأمين الاستقرار من خلال نظام سياسي أصيل واستثنائي”!
لا أعرف بالضبط ماذا يقصد الأستاذ جبرون بـ”النظام السياسي الأصيل والاستثنائي”! ولا أفهم سبب افتعال هذا التباين بين ما يسميه “أطروحة الانتقال الديموقراطي” وبين “تأمين الاستقرار”..
وقبل أن أشير إلى ما أعتبره أخطاء منهجية في مقالة ذ. جبرون، أريد أن أوضح بأن أطروحة المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية جاءت تحت عنوان: “شراكة فعالة من أجل البناء الديموقراطي” وليس الانتقال الديموقراطي، لأن الانتقال نحو الديموقراطية ليس عبارة عن أطروحة نظرية قائمة بذاتها، وإنما يتم الحديث في “العلوم السياسية” عن تجارب الانتقال الديموقراطي، فتجربة الانتقال في إسبانيا مختلفة عن جنوب إفريقيا، وهذه الأخيرة مختلفة عن تجارب الانتقال في دول أمريكا اللاتينية وعن تجربة الانتقال الديموقراطي في تونس، وبالتأكيد فإن المغرب ماض في مسيرته الديموقراطية بطريقة مختلفة أيضا.
ثانيا، لقد أسهبت أطروحة المؤتمر الوطني السابع في التأسيس لشراكة وثيقة من أجل علاقة متوازنة ومنتجة مع المؤسسة الملكية، على اعتبار أن “تاريخ المغرب يبين أنه متى التقت الإرادة الشعبية مع الإرادة الملكية، ومتى التقت إرادة الملك مع إرادة النخب وتوافقت، إلا وتمكن المغاربة من أن يبدعوا وأن يتجاوزوا أزماتهم مهما كبرت وتعقدت”.
كما أن التاريخ يشهد بأن أي ارتباك في العلاقة بين المؤسسة الملكية والنخب وعموم الشعب يؤدي إلى إشكالات حقيقية تعيق التقدم وتربك الاستقرار.
واليوم يتجه المغرب إلى بناء نموذج متوازن لتدبير العلاقة بين الملكية والنخبة السياسية، يقوم من جهة على المحافظة على مكانة الملكية في النظام السياسي وإعطائها دورا أساسيا وفاعلا في الحياة السياسية المغربية. وعلى توسيع مجال المسؤولية السياسية للأحزاب في تسيير الشأن العام، والتوجه إلى القطع مع الثقافة السياسية التي كانت سائدة لحد الآن، والتي كان ينظر من خلالها للفاعل السياسي باعتباره موظفا ساميا، في أحسن الأحوال، يتلقى التعليمات والتوجيهات.
وتضيف الأطروحة أن “المطلوب من حزب العدالة والتنمية هو أن يرسي قواعد علاقة متوازنة ومنتجة مع المؤسسة الملكية، أساسها الإصلاح، وقوامها الثقة والتعاون والتفاهم بما يضمن وحدة واستقرار البلد، وإطارها الدستور بما هو الوثيقة الأسمى المنظمة للعلاقات بين المؤسسات”. إذن لا مجال للمزايدة على حزب العدالة والتنمية في موضوع التوافق مع المؤسسة الملكية، فهذه قناعة راسخة وعقيدة ثابتة تجد جذورها في الدين والتاريخ، فما المقصود إذن بدعوة الأستاذ جبرون؟
الخلاصة التي انتهى إليها الأستاذ جبرون هي خلاصة خاطئة لأنها استندت على مقدمات خاطئة:
– الخطأ المنهجي الأول هو اعتماد تعريف سطحي للتحكم، يخلط بين التحكم والمؤسسة الملكية، يقول جبرون: “وإذا كان التحكم في القاموس السياسي الراهن هو وصف توصف به الممارسات والأفعال ويغفل عمدا عن الحديث في الجهات التي تقف وراءه لأسباب يتفاوت الناس في إدراكها، فإن هذه الجهات لا تنفصل عن الملكية والجهاز المخزني الذي تُشْرِف عليه..”. وفي سياق آخر يعيب على العدالة والتنمية الحديث المتضخم عن التحكم ويذكره بقوله: “لقد كان طموح هذا الحزب ومنذ عودته للحياة السياسية سنة 1996 هو التوافق مع الملكية وتجنب الصراع معها”. وهو ما يعني حسب جبرون أن مواجهة التحكم تعني بالضرورة مواجهة الملكية والانزياح عن مفهوم التوافق معها! وهنا تكمن خطيئة هذا التحليل، وهو ما يتطلب نوعا من التدقيق لمفهوم التحكم. إن مفهوم التحكم يستعمل للدلالة على مراكز نفوذ تحتل مكانة قريبة من المؤسسة الملكية وتتمتع بهذا الامتياز لتمارس مهامها في الوساطة مع المؤسسات. غير أن هذه الوساطة قد تنزاح في كثير من الأحيان عن وظيفتها الأصلية لترسم لها أجندات خاصة، وكمثال معبر على ذلك ما حصل مع العديد من المقربين للملكية في عهد الحسن الثاني، حيث إن رمز التحكم في تلك المرحلة كان هو الجنرال أوفقير، وقربه من الحسن الثاني لم يمنعه من أن يمثل التهديد الأول للملكية عبر محاولتين انقلابيتين. كما أن عهد إدريس البصري لم يخل بدوره من استغلال وزير الداخلية القوي لنفوذه الواسع لإعطاء العديد من التعليمات ونسبتها للحسن الثاني، ثبت فيما بعد أنها كانت مندرجة في إطار خدمة أجندة خاصة. إن التحكم الذي يرمز إليه حزب الأصالة والمعاصرة حاليا لا يكمن في اعتباره حزبا إداريا من صنيعة جهات سلطوية، ولكن يكمن في الضبط في ادعاء أنه يمثل مشروعا للملك، ويكمن في الأساليب التي يقوم بها عراب هذا الحزب لإعطاء التعليمات هنا وهناك بادعاء القرب من الملك، وهو ما يمثل خطرا على الدولة والمجتمع، وجب التنبيه إليه ومواجهته.
لقد كان الملك محمد السادس واضحا في خطاب العرش الأخير حين قال: بصفتي الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وعلى صيانة الاختيار الديموقراطي، فإنني لا أشارك في أي انتخاب ولا أنتمي لأي حزب، فأنا ملك لجميع المغاربة..”، وهو ما يعني أن الوظائف الاستراتيجية والدينية والتحكيمية للمؤسسة الملكية تجعلها على مسافة واحدة مع جميع الهيئات السياسية والحزبية، وأي خلط بين التحكم والملكية هو خدمة مجانية لدعاة التحكم وإغلاق القوس الديموقراطي..
الخطأ المنهجي الثاني، هو تضخيم الخصوصية المغربية وجعلها في حالة تناف مع الديموقراطية، بل وصل الأمر بالأستاذ جبرون إلى القول بأن “التحكم هو تعبير عن الخصوصية السياسية المغربية التي لم ينجح الزمان في إضعافها والتقليل من آثارها..”، وهي دعوة مباشرة للتسليم بهذه القدرية السياسية الجديدة، بل وجعلها جزءا من الخصوصية المغربية، ولا أخال هذا النوع من التفكير سوى امتداد لبعض الفقه التراثي السياسي الإسلامي الذي يؤصل للاستبداد وللسلطة المطلقة تحت مقولات متجاوزة على غرار: “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم”.
الخطأ المنهجي الثالث، هو تجاهل العمق الديموقراطي للحركة الوطنية، إن التمعن في قراءة “أطروحة جبرون”، فضلا عن قساوتها غير المبررة في نقد أداء أحزاب الحركة الوطنية، فهي تشكك في إيمانها بالديموقراطية وتجعل إيمانها بها مطية فقط للوصول إلى السلطة، يقول جبرون: “فأحزاب الحركة الوطنية التي وجدت نفسها غداة الاستقلال مقصية من السلطة لم تجد غير الديمقراطية مطلبا للتعبير عن تطلعاتها المشروعة لممارسة السلطة ومواجهة الملكية المطلقة”، وهذا الحكم، حتى وإن كان صحيحا بالنسبة لبعض فصائل الحركة الوطنية، فإنه لا يمكن أن يتجاهل دعوات بناء نظام ديموقراطي ووضع دستور للبلاد قبل الاستقلال، وهو ما تدل عليه كتابات علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني، بل وقبل ذلك مع كتابات علماء المغرب في بداية القرن العشرين، ومطالب وضع دستور للبلاد، مما يعني أن الفكرة الديموقراطية كانت فكرة مختمرة في وعي الحركة الوطنية وليست فقط رد فعل عن الإقصاء من السلطة.
إن دعوة حزب العدالة والتنمية للتخلي عن أطروحة البناء الديموقراطي هي دعوة في الجوهر للتخلي عن الديموقراطية كقيمة فكرية وسياسية تتضمن معاني الحرية والشورى، وتتوج مسارا من المراجعات الفكرية التي قامت بها الحركة الإسلامية، وهي دعوة للتراجع عن التراكم الواضح الذي عرفته بلادنا في مجال الديموقراطية وبناء دولة المؤسسات حتى أصبح الاختيار الديموقراطي من الثوابت الدستورية التي أجمع عليها الفرقاء السياسيون. إنها دعوة رجعية بامتياز تتعارض مع المسار المستنير الذي رسمه الباحث محمد جبرون في كتابات سابقة.. وهو ما يتطلب من صاحبه المزيد من التدقيق والتوضيح.