محمد الأشهب
لا بد من أن السيناريوات تتكرر كما في مفاصل الأحداث المتلاحقة، ومع أن التاريخ لا يستنسخ نفسه إلا بمقدار الإحالات والعبر، فإن التخوفات المتزايدة من انتقال «داعش» إلى الاستيطان في ليبيا، كما فعل في سورية والعراق، تجد مداها في أكثر من معطى.
الفارق شاسع بين هجرة الطيور عبر القارات، على إيقاع حرارة أو برودة فصول السنة، وبين نزوح التنظيمات الإرهابية من مكان إلى آخر. وعندما اشتد الخناق على تنظيم «القاعدة» في أفغانستان لجأ إلى العراق والصومال ومنطقة الساحل الأفريقي، لكن تجربته تبدو مختلفة، من حيث الضيافة المفروضة على دول وكيانات لا تقدر على حماية أمنها وحدودها، أو توجد فيها امتدادات متطابقة في الأهداف، فيما «داعش» أعلن عن قيام ما اصطلح عليه «دولة إسلامية» مستفيداً من الفراغ الذي نجم عن محدودية أداء الدولة في العراق وسورية على حد سواء.
في ليبيا لا وجود لدولة واحدة وموحدة، فلا سلطة هناك لغير سلاح الميليشيات. ولا يوازي الإخفاق في الخروج من نفق أزمة الصراع والاقتتال سوى الفراغ الذي يجذب التنظيمات الإرهابية. فكلما غابت وتراجعت مقومات الدولة من أفغانستان إلى الصومال ومن سورية والعراق إلى ليبيا وامتدادات الساحل الأفريقي، تزاحمت التنظيمات في الإعلان عن وجودها المرادف للقتل والخطف وهدر أرواح الأبرياء.
يتفق الفرقاء الليبيون ضمنياً على أن أخطار تغلغل «داعش» وتمدده أقوى أثراً من ركام الخلافات التي حالت دون قيام حكومة وحدة وفاقية. ويلتقون بصورة أو بأخرى في الإقرار بأن تمزق كيان البلاد إلى جيوب ومراكز نفوذ كان من العوامل التي شجعت التنظيمات الإرهابية على الاستيطان، بل إنهم يشيرون إلى مناطق بعينها صارت حكراً على نفوذ ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية».
بيد أن المعطيات على الأرض تشير إلى أنه على رغم وجود حكومة وبرلمان في العراق استطاع «داعش» أن يقتطع الأرض ويرفض سطوة العنف والإبادة. والحال أن الأوضاع في سورية أكثر تعقيداً في اقتسام مواقع النفوذ، ما يعني أن الحل الذي تقدمه وصفة الأمم المتحدة، عبر تشكيل حكومة وحدة في ليبيا لن يكون كافياً. ذلك أن مفهوم الحكومة في نطاق منظومة التداول على السلطة، لا يكسب قوته إلا عبر التدبير العادي لشؤون الحكم. والحال أن هذا المفهوم يتراجع ويتبدد عند افتقاد السيطرة على الأرض.
بعد أن كانت الأزمة الليبية محض داخلية، تعكس درجات الصراع حول الاستئثار بالسلطة بين حكومتين وبرلمانيين وأكبر عدد ممكن من الميليشيات المتعددة الولاء، صارت اليوم إقليمية ودولية، تؤرق المجتمع الدولي برمته. وبين أن تمنح الأسبقية لفكرة حكومة الوحدة، ثم الانتقال إلى مدها بالسلاح ورفع الحظر الدولي لتتمكن من مجابهة الأخطار الإرهابية، أو تمنح للحرب على الإرهاب أولا، استناداً إلى التجربة الماثلة في سورية والعراق، تتوزع الآراء والاجتهادات.
من البحث في إشكالات الحدود وتشجيع دول الجوار للاضطلاع بدور أكبر لتطويق مضاعفات الأزمة الليبية، إلى ربط المعالجة بالأبعاد الأمنية المتمثلة في تزايد حركة نزوح اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين نحو بلدان الاتحاد الأوروبي، مروراً بتكريس خطة أشمل في تجفيف منابع الظاهرة الإرهابية، يصبح الليبيون أمام خيار واحد لا بديل منه، يكمن في توجيه الجهود وتوحيدها ضد العدو المشترك المتمثل في الإرهاب.
الفرصة سانحة لجذب اهتمام المجتمع الدولي أكثر. وكي لا تنحصر الحرب على الإرهاب في المجال الأمني، لا بد من وضع أرضية سياسية تكفل حظوظ التنسيق والتعاون، إذ يصبح في ليبيا المعرضة للمزيد من الأخطار محاور وحيد، يعكس تطلعات الشعب الليبي في الأمن والاستقرار وإرجاء الخلافات السياسية إلى ما بعد المرحلة النهائية في خنق الانفلات الإرهابي.