بقلم : محمد الأشهب
أكثر الهزات التي ضربت بلداناً في الاتحاد الأوروبي، مثل اليونان وإسبانيا، جراء تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية، لم تُخلّف ما يكفي من الأسئلة الموجعة على الصعيد المغاربي، السبب في ذلك أن دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط تواجه تحديات أخطر، تطاول مقوّمات وجودها واستقرارها وأمنها، فبالأحرى أن تفكّر في مضاعفات كهذه، تترك أثرها على مستوى العلاقات الأوروبية- المغاربية.
ليست المرة الأولى التي انكفأت فيها العواصم المغاربية، بمبرر أن ذلك يحدث للآخرين فقط. وحين طرقت التحوّلات الدولية لجهة انهيار الحرب الباردة أبواب دول عدة ونوافذها، لم تتنبّه الدول المغاربية إلى أن استيعاب بلدان أوروبا الشرقية من طرف صنواتها الغربية سيكون على حساب تراجع الاهتمام بالامتداد الجنوبي للجغرافيا الأوروبية الباحثة عن متنفسات جديدة في غير محور الجنوب. ولم يكن صدفة أن الدول الأوروبية الخارجة من المعسكر الشرقي كانت سبّاقة للدمج في الفضاء الأوروبي الذي احتضنها بكل وسائل الدعم والانفتاح.
في سوابق ذات صلة، لم تتمكن الدول المغاربية من محاورة نظيراتها الأوروبية بصوت واحد وموقف واحد، ومنذ تأسيس السوق الأوروبية المشتركة إلى ظهور المنظومة الأورو- متوسطية اعتمدت هذه العواصم مفاوضات ثنائية بدل تعزيز صفوفها بفكرة المحاور الوحيد، وحتى عندما اهتدت لإنشاء الاتحاد المغاربي الذي كان يعوّل على أن يكون المحاور الجماعي لشركاء دول المنطقة الأوروبيين والأميركيين وغيرهم، لم تصمد التجربة أمام إكراهات الخلافات الثنائية التي أضعفت قوتها التفاوضية ونفوذها السياسي والاقتصادي.
بيد أن الانكفاء لم يحل دون استمرار التفكير في محور العلاقات المغاربية- الأوروبية، وكان المتفائلون من أنصار الوحدة المغاربية يرددون أنهم استبقوا الإجراءات الأوروبية، يوم أقروا منذ العام 1958 استحداث اللبنة الأولى للصرح المغاربي في مؤتمر طنجة الذي ضم الفاعليات الحزبية في كل من تونس والجزائر والمغرب، إلا أن زخم المنظور الوحدوي سرعان ما خفت تحت تأثير أنواع من الخلافات الأيديولوجية بين النظم والاختيارات السياسية والاقتصادية.
فيما تغلّب الأوروبيون على خلافاتهم واتجهوا صوب أهداف الوحدة الأوروبية بخطى ثابتة، بدأت بأنماط التعاون الاقتصادي الذي أرسى قواعد تفاهمات سياسية راقية، تعثّر المسار المغاربي سياسياً، ثم تحوّل إلى تباعد اقتصادي وتجاري، سيتعداه لاحقاً ليضرب أواصر القيم المشتركة في التاريخ واللغة والدين وتفاعل الشعوب. بصيغة أخرى، حوّل الأوروبيون حربهم القديمة المنسيّة إلى بنيات سلم وتعايش، بينما تخندق المغاربيون وراء ركام الخلافات التي لا تنتهي.
في الدرس البريطاني الذي يثير المزيد من النقاش داخل الأوساط الأوروبية، لا نكاد نعثر على ما يوازيه من طرح إشكالات مغاربية، لكن الفارق بين الصورتين أن البريطانيين اعتمدوا خيار الاستفتاء في الحسم في جدل الشارع حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بينما الشعوب المغاربية لم تقل كلمتها بعد. ولا يبدو أنها ستكون مدعوة لتحديد اختيارها.
تأسس الاتحاد المغاربي، من دون أن يوازيه زخم ديموقراطي، عبر استفتاء الشعوب المغاربية. وتلك معضلة تبدو انعكاساتها جلية، من خلال طوق الصمت المضروب شعبياً حول ما آلت إليه جهود البناء المغاربي العالق.
ولعل الجدل الذي رافق انسحاب بريطانيا من الفضاء الأوروبي، يكون مدخلاً للبحث في صيغة ديموقراطية تعاود المشروع المغاربي إلى دائرة الاهتمام.
إذا كان صحيحاً أن الاتحاد الأوروبي يمثّل الشريك الأول للبلدان المغاربية على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، فإن المنظومة الأورو - متوسطية التي انبثقت من رحمه أضافت إلى هذه الشراكة أبعاد الديموقراطية وحقوق الإنسان والنهوض بأوضاع النساء وتأهيل الموارد البشرية، وبالتالي فالفرصة سانحة لبدء حوار مغاربي حول الآفاق الممكنة، انطلاقاً مما أحدثه الزلزال البريطاني، لولا أن الانسحاب من الاتحاد المغاربي يصبح نافذاً من دون الحاجة إلى استفتاء، لأن السياسة المغاربية درجت على أن تُفرض من فوق وإن كانت وجيهة إزاء استراتيجية الخيار المغاربي الذي لا بديل منه إلى الآن.