بقلم - سليمان جودة
مشاعر المصريين فى وداع رمضان هذه السنة، لم تكن كالمشاعر التى ودعوه بها من قبل على مدى سنوات فى الأمد المنظور!
ذلك أن المصريين لا يصومون رمضان وحدهم، وإنما يصومه معهم المسلمون فى كل أنحاء الأرض.. ولكن صيامنا نحن هنا يختلف عن كل صيام فى كل أرض!
صيام المصرى ليس امتناعاً عن الطعام والشراب وغيرهما مما يفسد الصيام وفقط، وليس إفطاراً مع مدفع الإفطار وحسب، ولا هو سحور يسبق أذان الفجر وكفى.. لا.. ليس هذا كله.. لأن هذا كله يفعله كل صائم فى كل مكان.. وإنما الصيام فى مصر عموماً، وفى القاهرة بالذات، يبقى أجواءً حية فى كل ركن، وطقوساً ممتدة فى كل زاوية، واحتفالات لا تخطئها العين على كل ناصية.. إلا صيام هذه السنة!
لم يكن المصرى فى السنوات السابقة يحتفل وحده برمضان، ولا كان يحتفى بمفرده بهلال الشهر، ولكن الشارع كان يحتفل معه.. والمسجد كان يشارك فى الاحتفاء.. والبهجة كانت تتبدى فى الشوارع قبل أن تملأ البيوت.. والزينات كانت تحمل الفرح مع الأنوار!
وليس سراً أن مصريين كثيرين كانوا إذا اغتربوا فى أثناء الشهر، افتقدوا مذاقه المصرى الخاص، حتى ولو صاموا وصلوا فى أماكنهم كما يقول الكتاب.. وكنت أنت إذا سألت أحدهم عما يفتقده فإنه يعجز عن التعبير ولا يجد شيئاً يقوله.. ليس لأنه ليس لديه شىء يقال عن مذاق رمضان الخاص فى مصر، ولكن لأن هذا المذاق يحس به صاحبه ولا يستطيع تفسيره، فضلاً عن أنه يستطيع وصفه فى كلمات!
إننى أعرف أصدقاء عرباً كانوا يعرفون هذا أكثر مما نعرفه، ولم يكن يحلو لهم رمضان إلا فى مصر، وكانوا إذا غابوا لظرف طارئ غابت عنهم بهجة رمضان المصرية، حتى ولو صاموا فى بلادهم، وحتى لو صلوا فى مساجد عامرة تتلألأ بالأضواء هناك!
وكما قيل عن أن بلادنا «فيها حاجة حلوة» فإن رمضان فيها.. ما عدا رمضان الذى نودعه.. كان دائماً «فيه حاجة مصرية حلوة».. حاجة مصرية تدركها ولا تلمسها ولو حاولت.. حاجة مصرية تصل إلى وجدانك ولا تستطيع أن تحتويها بالألفاظ.. حاجة روحية تتسرب إلى أعماق صاحبها ولا يمكنه حبسها فى كلمات.. حاجة ربانية تتنفسها طوال الشهر ولا تستطيع الإمساك بها.. فيه سر كما أن له رائحة!
لهذا نودعه بين الحزن والرجاء.. الحزن على أننا لم نعرفه هذه المرة كما عشنا نعرفه.. والرجاء فى أن يدور العام دورته لنستقبله بإذن الله كما عشنا نستقبله!