بقلم : خالد منتصر
ذكرياتى الشخصية مع نصر أكتوبر العظيم دائماً لها خلفية موسيقية، تختلط أحياناً بهدير المدافع وأزيز الطائرات، وأحياناً أخرى بنشيد الفرح ونشيج العزاء.
الفن المصرى، خاصة الغناء والطرب كان حاضراً بقوة منذ بداية حرب الاستنزاف حتى احتفالات الانتصار، كسلاح إضافى، وحافز مساعد، وموال صبر وعدودة حزن، أتذكر حفلات أم كلثوم وتبرعها بأجرها وإيراد حفلاتها للمجهود الحربى، أتذكر يوم سافرت إلى باريس، وحدد لها منظم الحفل أكبر أجر حصل عليه مطرب آنذاك، وتسابق أفراد الجالية العربية لشراء تذاكر الحفل، وكان الحفل أكبر مظاهرة حب لمصر ولأم كلثوم، رغم مرارة الهزيمة، أتذكر أيضاً المذيعة الراحلة سلوى حجازى شهيدة الغدر، وهى تجرى حواراً مع كوكب الشرق فى باريس، كانت ملامح «الست» فى هذا اللقاء تعكس الحزن والغضب، وأيضاً تعكس العناد والإصرار، كانت الصدمة بعدها بسنوات لمراهق صغير وهو يستمع للشيخ كشك، وهو يسب تلك السيدة العظيمة من على المنبر، ساخراً منها بكلمات جارحة، والمصلون الذين كانوا بعشرات الآلاف منصتون موافقون، كان الوعى قد بدأ تزييفه من خلال الفاشية الدينية التكفيرية التى بدأت منذ الهزيمة فى اختراق الوعى المصرى وتسميمه، وكانت أولى وأهم الخطوات هى زرع كراهية الفن، لتجعل الوجدان المصرى جلفاً غليظ الحس سقيم الروح، يتقبل بسهولة أفكار الذبح والقتل والخراب والدمار التى كانوا يخططون ويعدون ويمهدون لها.
وكما كانت الموسيقى حاضرة فى زمن الاستنزاف، كانت حاضرة وبقوة فى زمن الانتصار، وكان النجم منذ اللحظة الأولى العبقرى بليغ حمدى، الذى اعتصم أمام مبنى الإذاعة منذ اللحظة الأولى، وكان مبنى ماسبيرو منطقة محظورة فى تلك الأيام، لكن بليغ أصر بعناد المحب العاشق على الدخول، إلى أن أنقذ الموقف صديقه الإذاعى وجدى الحكيم، بات «بليغ» فى الاستوديو ليل نهار، لا ينام، تأتيه الكلمات، فيُلحن بسرعة البرق وعلى الهواء، ألحاناً من القلب إلى القلب، ع الربابة بأغنى، بسم الله الله أكبر.. وغيرهما، كأن الوحى الفنى يأتيه بالسحر فيبدع.
كنت أستمع بنفس الحماس وقتها إلى صوت صالح مهران فى البيانات العسكرية، وصوت وردة الجزائرية فى أيقونتها الوطنية ع الربابة، ومن الاستوديو إلى الشارع، ومن بليغ حمدى إلى محمد نوح، كنت طفلاً يصحب عمه إلى معرض الغنائم التى استولينا عليها أثناء معركة الانتصار بعد اقتحام خط بارليف، المعرض الذى أقيم فى حديقة واسعة بمنطقة الأوبرا الحالية، ليشاهد مبهوراً ولأول مرة مطرباً أحبال حنجرته مربوطة بشرايين قلبه، لا يهتم بالتطريب، يبث الحماس فى الآلاف الذين كانوا يقفون على أطراف أصابعهم ويحسون أنهم فى داخل لهيب المعركة، كنا نشاهد محمد نوح من تلك المسافة البعيدة كمارد يخرج من النار ليبعث فينا الحياة والحب والوطنية وعشق مصر المحروسة، يصرخ مدد، فنصرخ خلفه شدى حيلك يا بلد.
إنها الموسيقى التى حاربها أعداء الحياة وخفافيش الظلام، لأنهم كانوا يعرفون جيداً أن من بداخله حب الموسيقى من المستحيل أن يتبنى الشر والكراهية.