لماذا القلق على بيروت

لماذا القلق على بيروت؟

المغرب اليوم -

لماذا القلق على بيروت

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

مع انطلاق ما عُرف بـ«إعادة الإعمار»، استخدمت شركة «سوليدير» شعار «بيروت مدينة للمستقبل». اليوم، تواجه المدينة أزمة قد تدفعها، للأسف الشديد، لأن تغدو مدينة للماضي.
بادئ بدء، مدن العالم كلها مأزومة اليوم: الغلاء يطرد سكانها فيما التعليم والعمل من المنزل، بعد كورونا، يسهّلان الاستغناء عن المكتب. وإلى الكثافة الديموغرافية وانكماش الخدمات العامة وتضخم مركزية العواصم، جاء الوباء الأخير ليضرب بعض معالم المدن: المطعم والمقهى والفندق والمسرح والمتحف ودار السينما وحديقة الأطفال. إذن، يُرجّح أن تتنامى العودة إلى الريف، وأن ترفعها أفكار تكره المدن إلى سوية العودة إلى الله.
مع بيروت، تُضرب هذه الأزمات بألف. ذاك أنّ تلك المعالم ليست مكملة للمدينة. إنّها المدينة: على هذا النحو صنعتها التجارة والبحر والخدمات. يكفي تخيل بيروت من دون الجامعة والمصرف والمستشفى والفندق والمطعم والجريدة ودار النشر، ومعها الزوار العرب والأجانب...
اليوم يحدّق ملاك الموت بالمعالم هذه، واحداً واحداً.
كورونا والإفلاس المالي وتصدّع شرعية النظام، وقبلها جميعاً بندقية «حزب الله» الطاردة للبشر وللمال، تضافرت لإنجاز المهمة. الاجتياح الإسرائيلي في 1982 كان محطّة بارزة في هذه المسيرة الطويلة المعقّدة. لكنّ المحطة الأشد تأثيراً على المدى الأبعد كانت طريقة الردّ على الاجتياح. المدينة استبيحت في الثمانينات وصارت ضاحيتها المسلحة، لأنّها مسلحة، أهم منها. البندقية مذاك بدأت تتغلب على الجامعة والمصرف والمستشفى والفندق والمطعم والجريدة، ومعها الزوار العرب والأجانب.
هذا لا يعني أنّ البناء السياسي والاقتصادي اللبناني كان سليماً، لكنّ الأساسات كانت موجودة كي يُبنى عليها: البرلمان والانتخابات، قطاع صناعي معقول (مواد غذائية ونسيجية وأحذية ونشر وطباعة...)، جامعات وصحف إلخ... والأهم: العلاقة بالعالم.
تاريخ بيروت لا يقول إلا هذا. في أربعينات القرن 19 كان سكانها ثمانية آلاف. لكن تعاظم أهمية الساحل، بسبب نمو التجارة، كبّر وزنها. السلع الأوروبية المصنّعة بدأت، بسبب الثورة الصناعية، تغزو أسواق السلطنة، وحملة إبراهيم باشا السورية (1832 - 40) باشرت ربط المنطقة بالعالم. في 1848 ارتفع عدد السكان إلى 15 ألفاً. في مسار الصعود هذا، كان يمكن حتّى للحروب أن تنتج بعض الفوائد. حروب الجبل الطائفية دفعت بمسيحيين كثيرين إلى بيروت. في 1888، إبّان المتصرفية، جُعلت بيروت عاصمة لولاية ضمت كامل الساحل السوري، بما فيه فلسطين. مع نهايات القرن، ارتفع السكان إلى 120 ألفاً. في تلك الغضون ازدهرت الإرساليات الأوروبية والأميركية، البروتستانتية والكاثوليكية. كان من ثمار الازدهار الجامعتان الأميركية (1866) واليسوعية (1881). المطابع التي تكاثرت بسبب الجامعات والمدارس أحدثت ثورة في النشر وصناعته. الصحافة حضرت. المثقّفون حضروا ومعهم الدعوات النهضوية والإحيائية على أنواعها.
الانتداب الفرنسي في 1920 أوجد لبنان الكبير وجعل بيروت عاصمته. الجمهورية اللبنانية أعلنت في 1926. النمو الاقتصادي المتسارع وسّع بيروت وضاعف ازدهارها، فيما التوتّر السياسي والطائفي كان ينمو أيضاً: نكبة 1948 ثم صعود الناصرية ودائماً مناكفات الطوائف وتوزيع الحصص. القنابل الموقوتة تلك انفجرت انفجارها الصغير في 1958، ثم انفجارها الأكبر في 1975 مستفيدة من الحضور الفلسطيني المسلح ومما استدعاه من سلاح مقابل. غزو إسرائيل في 1982 أنهى حقبة واستهل أخرى.
لكنْ بين 1952 و1975، وباستثناء الانقطاع القصير في 1958، تولى الاستقرار السياسي والانفتاح على الغرب والعرب معاً، جعل بيروت ما صارته: مركزاً إقليمياً وتعليمياً وثقافياً، جاذباً للرساميل... مرونة النظام المصرفي والمنطقة الحرة في المرفأ وجدا ما يستكملهما في تعليم جيد ينتج الطواقم التي تتطلبها إدارة اقتصاد رأسمالي. الحرية البعيدة نسبياً حولت المدينة رئة وحيدة في صدر المنطقة الضيق. الأنظمة العسكرية في الجوار لم تَرقْها حريات لبنان الإعلامية: نسيب المتني اغتيل في 1958. كامل مروة في 1966. ميشال أبو جودة خُطف إلى سوريا في 1973. صار هذا السلوك تقليداً بعد نشأة الوصاية السورية لاحقاً: سليم اللوزي، سمير قصير، جبران تويني.
الطوائف وتحالفاتها الخارجية كانت تنخر هذا البناء... مع هذا فحرب 75 لم توقف الاقتصاد كلياً. استمرت سلع لبنانية زراعية ومصنّعة تلبّي السوق الداخلية والأسواق العربية، وظل الإعلام والنشر. السياحة مضت تقتنص فرص الهدوء بين مواجهتين أو حربين.
إعادة الإعمار الحريرية بنت بعض ما دمره المسلحون لكنّها بنته بأكلاف ومديونية مرتفعة وبتوسيع للفجوات بين الطبقات والمناطق كما بين القطاعات الاقتصادية. إلا أنّ العامل الأكثر تسبباً بالانهيار كان عدم إقلاع المشروع السلمي الذي بدأ مع أوسلو في 1993. هذا السبب الإقليمي نفسه هو ما أودى، بعد عقد ونيف، بصاحب إعادة الإعمار وبعض رفاقه.
هناك تفاصيل كثيرة تستكمل الصورة وتنبّه إلى تعقيداتها مما لا تتّسع له هذه العجالة. هناك عوامل جزئية لا بد من تناولها تجنّباً للتبسيط. لكنّ العامل الأهم والأبرز للانهيار يبقى ذاك التحالف بين مفاعيل الطائفية والاتّجاهات الراديكالية الكارهة للغرب وللعالم. هذا التحالف، الذي لا يزال يحكمنا، هو صاحب الخنجر الأكبر الذي زُرع في صدر بيروت، والذي قد يردّها مدينة للماضي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا القلق على بيروت لماذا القلق على بيروت



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"

GMT 13:01 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

رودريجو يكشف عن شعوره الأول لحظة مقابلة زين الدين زيدان

GMT 16:29 2019 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مغربي يقدم على قطع جهازه التناسلي لسبب غريب

GMT 09:59 2019 الإثنين ,26 آب / أغسطس

"رئيس الوصية"..على أبواب قصر قرطاج
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya