هجرس الطيني والبشري

هجرس الطيني والبشري

المغرب اليوم -

هجرس الطيني والبشري

بقلم : حسن البطل

«متى نفك قالب الجبس يا سيدي؟»، «في حرارة خصوبة المرأة يا سيدي». صرت أضع باطن كفي على قوالب الجبس.. وصار محمد هجرس يصدقني عندما يصدقني باطن كفي! حرارة خصوبة المرأة يوم أو يومان في الشهر، وحرارة خصوبة قالب الجبس دقيقة واحدة أو دقيقتان في الساعة.
كنت فضولياً متطفلاً على تخليق البشري للطيني، فصرت، مع تعليمات محمد هجرس، مساعداً متطوعاً.
أدهن التمثال برغاء الصابون الممزوج بالزيت، أو بغراء خاص، وأناوله خيوط الخيش المندوف، حطام خشب، أسلاكاً رقيقة مجدولة.. مسامير وبراغي الخ!.
في ازدرائه لسلطان الموت، هتف محمود درويش: «يا موت.. أنت مسؤول عن الطيني في البشري»، غير أن النحات الذي «يهزم» الموت مجازاً، مسؤول عن البشري في الطيني.. وأنا لست مسؤولاً عن تصنيف النحات المصري محمد هجرس على سلم فن النحت المصري والعربي، ولكنني مسؤول عن إعطائه «علامة التمام» في دورة الإبداع الفني ـ التبادع. دورة الحياة: ابن، أب، جد، حفيد، ودورة الإبداع: تلميذ ـ معلم ـ تلميذ. وكان المعلم محمد هجرس تلميذاً لشيخ النحاتين المصريين محمود مختار، وصار معلماً لتلميذه الأول خليل، ولد نابه اكتشفه في عمق قرية مصرية، وتبع التلميذ معلمه إلى بيروت، فإلى مشغل النحاتة منى السعودي، زوجتي وقتذاك، وتبعته امرأته الوفية بالطبع، وولده البكر الذي هجر مهنة المحاسبة ومسك الدفاتر.. وفي الصيف تزورنا ابنته.
.. وأحياناً، نتبعه: امرأتي النحاتة، وأنا، وطفلتنا الرضيعة إلى مشغله في قرية «راشيا الوادي» في البقاع اللبناني، ليس بعيداً عن طريق دمشق ـ بيروت الدولي. هناك، لم أتعلم الكثير، لأن الفرن أتون، جهنم صغيرة، ولأن صناعة الخزف أعقد من صناعة قالب الجبس.
* * *
كأي فنان كان محمد هجرس حاضر البديهة ـ كثير الشرود، وكنت أنشله من شروده، الصباحي خاصة، مردداً حواريتنا الأثيرة: «متى نفك قالب الجبس؟» «في حرارة خصوبة المرأة».
كان هجرس يأتي بعائلته كلها إلى المشغل في رأس بيروت، وكانت أسرتي الصغيرة تذهب كلها إلى المشغل، في راشيا الوادي.. حتى انفكت حرارة هذه العلاقة بنيران غزو بيروت 1982. «اخترت» قبرص منفاي، واختار دمشق هجرته الجديدة، واختارت زوجتي مشغلاً جديداً في عمان.. ثم شدها الحنين إلى المشغل في بيروت.

الذي علمني «البستنة» أيضاً في صباحات حاكورة بيته ـ مشغله في بلدة «راشيا الوادي» البقاعية، فوجئ، عندما رأى بستان بيتي، في «13 اركاديو ستريت ـ ايوس ذيمتيوس ـ نيقوسيا». فاجأني بحضوره. لم يفاجئني بسبب حضوره.. سرعان ما صارت حديقة تلك الدار، مشغلاً، أو صار «الكاراج» مشغله: عدنا إلى البداية: حرارة تفاعل الجبس في درجة حرارة خصوبة المرأة. أتشرف، حقاً، بأن «بروفة» تمثاله الأشهر «الشهيد الفلسطيني» المنصوب في مقبرة الشهداء ـ دمشق، ولدت في ذلك الكاراج؛ في ذلك المشغل الطارئ، ثم انتصب على بوابة «جناح م. ت. ف» في معرض نيقوسيا الدولي.
أخذ القالب وعاد للشام.
تلك المرة، كنت «مساعده» الوحيد، أو «أجيره المتطوع»، أو نديمه الليلي في مرابع نيقوسيا، أو مساعده في الطبخ البيتي.. وبالطبع، تلميذه في البستنة. كان يحب «الفراولة» والبصل الأخضر.. وشاي الصباح على الريق مع الدخان قبل كل شيء.
شاي الصباح له وقهوة الصباح لي. كان يسارياً أكثر مني، وكان يفوقني علماً وثقافة وتجربة.
* * *
هل كان محمد هجرس يفكر ببيتي القبرصي مشغلاً ثالثاً؟ سألته: ماذا أفعل بالعدة والعتاد، والمواد؟ قال: يمكن أرجع تاني!.. لم يرجع إلى نيقوسيا، وأنا غيرت البيت بعد البيت.. ثم، غادرت قبرص بلا رجعة. لم أسأله: كم تكون حرارة العودة إلى البلاد؟.. وفي رام الله قرأت، موته خبراً في الوكالة، فأوصيت زميلي بنشره خبراً في الجريدة. كان مصرياً في الهوية فلسطينياً في الهوى.
طين البستنة. طين قوالب الجبس. طين قوالب الفخار والخزف.. وتلك الحكمة: عليك أن تفك القالب في حرارة خصوبة المرأة. هذا تخليق.. وهذا خلق.

للموت أن يسترجع «الطيني في البشري».. وللبشري أن يجعل الطيني صروحاً تتنفس الهواء الطلق.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هجرس الطيني والبشري هجرس الطيني والبشري



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 18:57 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الثور

GMT 14:07 2016 الجمعة ,16 أيلول / سبتمبر

الأبنوس

GMT 15:05 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

نيمار يبلغ سان جيرمان برغبته في الرحيل هذا الصيف

GMT 14:42 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

السالمية الكويتي يبدأ مشواره العربي بلقاء الشبيبة الجزائري

GMT 15:23 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

سنوات يفصلها رقم

GMT 11:24 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الملك محمد السادس يرسل برقية تعزية إلى الرئيس الكاميروني

GMT 13:45 2019 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

أول صالون تجميل يستقبل المحجبات في نيويورك

GMT 23:50 2019 الأحد ,02 حزيران / يونيو

باتريس كارتيرون يُراقِب العائدين من الإعارة

GMT 00:14 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

السعودية تنفذ حكم القتل تعزيرًا في حق صدام حسين

GMT 20:47 2018 السبت ,08 كانون الأول / ديسمبر

"الوطني للسكك الحديدية "يعلن عن تخفيضات في تذاكر القطار

GMT 10:42 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حركة إعفاءات وتغييرات جديدة في صفوف الدرك الملكي

GMT 02:26 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ورق جدران بألوان جذابة لديكورات غرف معيشة مبهجة

GMT 22:03 2018 الإثنين ,06 آب / أغسطس

صعقة كهربائية تودي بحياة شاب في سلوان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya