مرّة أخرى، تختبئ إيران خلف العناد لتفادي مواجهة الواقع المتمثّل في أنّ العقوبات الأميركية هي الحرب الحقيقية التي تتعرّض لها. أثّرت هذه العقوبات على “الجمهورية الإسلامية” أكثر بكثير من أيّ مواجهة عسكرية.
كشفت إلى أيّ حدّ فشلت إيران في بناء اقتصاد متنوّع يمتلك قاعدة ثابتة ولا يعتمد على النفط والغاز. لعلّ الفشل الأوّل للنظام الإيراني الذي قام في العام 1979 فشل اقتصادي وحضاري في الوقت ذاته.
عزلت إيران نفسها عن العالم وتحوّلت إلى مصدّر لإثارة الغرائز المذهبية في منطقة تحتاج قبل أيّ شيء إلى الاستقرار وحدّ أدنى من التعقّل وروح التسامح والاعتراف بالآخر…
ليست العقوبات الجديدة التي فرضتها الإدارة الأميركية على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف سوى رسالة أخرى فحواها أن الحرب الأميركية مستمرة ولا ينفع من أجل وقفها أيّ نوع من المناورات الإيرانية، بما في ذلك بهلوانيات ظريف التي لم تعد تنطلي على أحد.
هناك، بكل بساطة، إدارة جدّية تعرف تماما أين نقاط الضعف الإيرانية من جهة ومدى تأثير العقوبات من جهة أخرى. الحرب، حرب عقوبات طويلة، على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. هذا لا يعني أنّ لا مكان لمواجهة عسكرية مباشرة أميركية – إيرانية. مثل هذه المواجهة يمكن أن تحصل في أيّ لحظة، لا لشيء سوى أنّ إيران في حاجة إليها اليوم قبل غد.
تعتقد إيران أنّ لا خلاص لها سوى بمواجهة مع الولايات المتحدة تظهر من خلالها أنّها قادرة على إيذاء القوة العظمى الوحيدة في العالم. مثل هذه المواجهة، في الحسابات الإيرانية، ستؤثر على دونالد ترامب الساعي إلى ولاية رئاسية ثانية يبدو أن لا شيء يمكن الوقوف في وجهها، أقلّه في المدى المنظور. هناك رهان إيراني على أنّ جرّ إدارة ترامب إلى حرب واسعة أو ميني – حرب، ستكون له نتائج سلبية على المعركة الرئاسية الأميركية التي افتتحها الرئيس الأميركي من فلوريدا قبل نحو شهر ونصف الشهر.
بعيدا عن الحسابات الأميركية والحسابات الإيرانية، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف ما الذي تريده إيران من خلال السير في مشروع توسّعي على المستوى الإقليمي؟ كيف يمكن لمثل هذا المشروع خدمة إيران والشعب الإيراني؟
تكمن مشكلة إيران بكلّ بساطة في أنّ ليس لدى النظام فيها ما يصدّره لا للداخل ولا للخارج. لا يستفيد الشعب الإيراني في شيء من عزله عن العالم ومنع الشبان الإيرانيين من اكتساب العلم والمعرفة من خلال الاحتكاك بالثقافة الغربية، الأوروبية أو الأميركية تحديدا.
لا يضرّ الشاب الإيراني الذهاب إلى الولايات المتحدة والتخرّج من جامعاتها بدل البقاء في أسر أيديولوجية أقلّ ما يمكن أن توصف به أنهّا متحجرة. حسنا، لنفترض أن لدى إيران عقدة أميركا وأوروبا، لماذا لا تستفيد من تجربة بلد لا يبعد كثيرا عنها مثل كوريا الجنوبية التي استطاعت التحول إلى أحد نمور آسيا؟
بغض النظر عن حصول مواجهة عسكرية أو عدم حصول هذه المواجهة، لا خيار آخر أمام إيران سوى التصالح مع نفسها ومع الواقع، لا لشيء سوى لأن كلّ ما تفعله خارج حدودها يصبّ في نهاية المطاف في خدمة الولايات المتحدة التي استفادت إلى أبعد حدود من المشروع التوسّعي الإيراني. هناك دول عدّة في المنطقة كانت تتردّد في الماضي القريب في تقديم تسهيلات عسكرية للولايات المتحدة. باتت هذه الدول تبحث حاليا عن كيفية تعميق تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة وغير الولايات المتحدة في ضوء التهديد الإيراني المتواصل للمجتمعات العربية على وجه الخصوص.
أكثر من ذلك، نجحت إيران التي تريد تحرير القدس في جعل القضية الفلسطينية قضيّة شبه منسيّة. لماذا على اللبناني الاهتمام بفلسطين عندما يرى إيران تعمل على تدمير كلّ مؤسسات الدولة اللبنانية بشكل منهجي. يأتي ذلك بعد خطف إيران الطائفة الشيعية في لبنان وتحويلها إلى رهينة لديها.
بكلام أوضح، نجحت إيران في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان إلى حد كبير. الأكيد أن هذا التغيير لم يكن في مصلحة الشيعة ولا في مصلحة لبنان الذي يعاني بسبب ممارسات إيران، عبر “حزب الله” من أزمة اقتصادية عميقة لم يسبق له أن تعرّض لمثيل لها منذ ولادته، كلبنان الكبير في العام 1920.
ليس اللبناني وحده الذي لم يعد مهتما بفلسطين. ماذا عن السوري الذي فقد كلّ أمل في عودة بلاده في يوم من الأيام إلى دولة قابلة للحياة. وحدهم السذّج يعتقدون أن هناك شيئا اسمه النظام السوري وأن هناك مستقبلا مشرقا لسوريا في يوم من الأيام. سوريا التي عرفناها انتهت منذ وقت طويل. كان للدور الإيراني وللميليشيات التابعة لإيران الدور الأكبر في القضاء على سوريا وعلى المدن السورية الكبرى من دمشق، إلى حمص، إلى حماة، إلى حلب.
لنضع سوريا ولبنان جانبا، ما الذي حصل في العراق بعد أن سلمته الولايات المتحدة على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003؟ هل لا يزال في الإمكان الكلام عن دور عراقي ما على الصعيد العربي؟ هل لا تزال هناك علاقة ما بين العراق وفلسطين؟ المعركة الدائرة في العراق الآن واضحة كلّ الوضوح. هل ينتصر المشروع الإيراني الساعي إلى جعل “الحشد الشعبي” يلعب دور “الحرس الثوري” في إيران؟
تُختزل أزمة العراق، التي دخلت مرحلة جديدة بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003، بسؤال واحد. ما الذي تريده إيران من العراق؟ كلّ الأسئلة الأخرى مجرّد تفاصيل.
لا حاجة بالطبع إلى طرح أسئلة عن الأدوار السلبية لإيران في اليمن أو في فلسطين نفسها. كلّ ما يمكن قوله إن إسرائيل كانت المستفيد الأول من المشروع التوسّعي الإيراني. استفادت إسرائيل إلى درجة لم يعد فيها سوى متاجرين بالقضيّة الفلسطينية من جماعة “محور الممانعة” الذين لا يهمّهم سوى استكمال الحرب على الشعب السوري خدمة لمشروع يصبّ في تقسيم سوريا وتحويلها مناطق نفوذ تكون إحداها إيرانية.
ستتابع أميركا حربها الاقتصادية على إيران. إنها حرب خاسرة إيرانيا لسبب واحد على الأقل. هذا السبب هو عجز إيران عن التراجع والاعتراف بأنّه لا يمكن الدفاع عن الفشل بأي شكل من الأشكال. إيذاء الشعب الإيراني وإيذاء الشعوب العربية الأخرى وتعطيل الملاحة في الخليج ليس سوى الفشل، بل هو الفشل بعينه. كلّ ما يمكن أن تؤدي إليه تصرفات من هذا النوع هو مزيد من الكوارث تحلّ بالمنطقة وأهلها. هل من فشل أكبر من هذا الفشل؟