طلاق يدمِّر الأسرة الأوروبية

طلاق يدمِّر الأسرة الأوروبية

المغرب اليوم -

طلاق يدمِّر الأسرة الأوروبية

بقلم - راجح الخوري

كان واضحاً منذ أربعة عقود أن هذا زواج مصلحة ومساكنة، وأنه لن يدوم طويلاً، وكان واضحاً أن «روح الإمبراطورية» التي صارت تغيب عنها الشمس، بعدما فقدت مناطق نفوذها في العالم، ستجعل من دخول بريطانيا إلى الوحدة الأوروبية، قصة فيها كثير من المعاناة، كما تجعل من خروجها الآن قصة مأساوية، فيها كثير من الأحزان والمخاوف!

كانت بريطانيا مهتمة بالمزايا الاقتصادية، التي يمكن أن تحصل عليها من السوق المشتركة، أكثر من اهتمامها بعناصر القوة ووحدة الموقف مع الأشقاء الأوروبيين، اللتين توفرهما الوحدة بين دول القارة العجوز. كانت تريد دائماً أن تكون شريكاً مضارباً في السوق، يستفيد مثلاً من منافع رفع الإجراءات الجمركية بين الأعضاء، أكثر من أن يكون عضواً مندمجاً في هذه السوق. والدليل أنها لم تبدِ أي حماسة لتكون عضواً في أولى خطوات الوحدة الأوروبية، وهي قيام تجمّع الحديد والفحم عام 1952، ورفضت قبول اتفاق روما عام 1957 الذي ضم بداية ست دول!

من حقائق التاريخ أن الجنرال شارل ديغول، كان يعرف جيداً سيكولوجيا وروح الإمبراطورية، التي لجأ إليها قبل النزول الكبير في النورماندي وتحرير فرنسا، ولهذا لم يتردد في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1967، من أن يقف داخل قصر الإليزيه أمام مئات من الدبلوماسيين وكبار رجال الدولة الفرنسيين، ليقول بالحرف: «إن بريطانيا تملك كراهية عنيفة ومتجذرة حيال الكيانات الأوروبية»، محذراً منذ ذلك التاريخ من أن دخولها كعضوٍ في السوق الأوروبية سوف يؤدي في النهاية إلى تمزيق هذه السوق!

عام 1961 طلبت بريطانيا الانضمام إلى السوق الأوروبية؛ لكن ديغول تمسّك برفض الطلب رغم موافقة الدول الأخرى، ولهذا لم تصبح عضواً إلا عام 1973، أي بعدما كان ديغول قد اعتزل الحكم في عام 1969.

وحتى بعد ذلك التاريخ، بدا أنها تريد أن تكون عضواً بميزات خاصة، ولهذا عندما قررت دول الاتحاد الإجراء الموحد لنظام تأشيرات الدخول «شنغن» رفضت الانضمام إليه، ثم رفضت أن تشترك في نظام العملة الموحدة «اليورو»، واحتفظت بالجنيه الإسترليني، وبسلطة بنك إنجلترا المركزي في تحديد أسعار الفوائد!

حزب المحافظين المفعم بالاعتداد الإمبراطوري، لم يكن متحمساً لعضوية بريطانيا الأوروبية، رغم كل ما قاله ونستون تشرشل عن فوائد الوحدة الأوروبية الكاملة، وهكذا عندما حلّت مارغريت ثاتشر في رئاسة الوزراء، صرخت بصوت غاضب عام 1990 قائلة: «لا لا لا»، رداً على اقتراح بتشكيل ما سُمي يومها «الولايات المتحدة الأوروبية»!

لم يكن زواجاً عن اقتناع قط، كان ارتباط مصلحة، اهتز بقوة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وما أثارته من تململ القاعدة الشعبية للمحافظين حيال المهاجرين من دول أوروبا الشرقية، التي انضمت إلى الاتحاد، وهكذا ربما تسرّع ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء «بريكست» الذي أيده 52 في المائة من البريطانيين، والذي سيطلق رياح المخاوف من دومينو طلاقات أخرى، لا تقتصر فقط على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ بل تطلق وتعصف في مشاعر اسكوتلندا وآيرلندا، الانفصالية الكامنة!

الاستطلاعات الأخيرة أظهرت مثلاً أن المقيمين في اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية يعتبرن أنفسهم أوروبيين، ولهذا ليس غريباً أن ترتفع حدة المطالبة بإعادة الاستفتاء في اسكوتلندا على انفصالها عن المملكة المتحدة، لتنال الاستقلال وتنضمّ إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن الأمور في ظل تنامي المشاعر القومية والميل إلى الانفصال، في عدد من الدول، قد تصل إلى أبعد مما يهدد وحدة المملكة المتحدة لتطال الوحدة الأوروبية، وحتى الوحدة القومية داخل عدد من الدول!

في مقال نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية نهاية يوليو (تموز) من عام 2016، يقول روشير شارما، مؤلف كتاب «صعود الأمم وانهيارها» والخبير الاستراتيجي في مركز «مورغان ستانلي»، إن الصدمة الهائلة التي أحدثتها نتائج استفتاء «بريكست» تثير أسئلة مقلقة، حول احتمالات انتقال العدوى إلى دول أخرى، والسؤال في طول القارة وعرضها: من التالي؟ ذلك أن انفصال بريطانيا يُعد كارثة مُعدية أكثر من كونه مرضاً محصوراً، وقد يؤدي إلى انهيار النظام الأوروبي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية!

قياساً بما جرى في باريس هذا الأسبوع، يبدو تحليل شارما رؤيوياً عندما يقول إنه بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، فإن كل القادة والسياسيين الذين انتخبتهم الشعوب للتخفيف من حدة الأزمة وتداعياتها لم يقدموا شيئاً، وهو ما يشعل الغضب الشعبوي الذي يستغلّه أمثال دونالد ترمب ومارين لوبان!

وعندما يتحدث شارما عن «عدوى الانفصال» في الدول الأوروبية، لا نتذكّر رياح مارين لوبان في باريس فحسب؛ بل أيضاً غليان جزيرة كورسيكا الفرنسية التي حملت السلاح حتى عام 2014 مطالبة بالاستقلال، وروح الانفصال في كاتالونيا الإسبانية، معطوفة على شقيقتها الحركة الباسكية التي لم تنطفئ بعد. أما في بلجيكا فهناك نزعة الفلامندر الاستقلالية، التي تذكرنا بإقليم فينيتو الإيطالي، الذي نظم استفتاء للانفصال عام 2014، أيده 89 في المائة من السكان، ورفضته روما.

ربما لهذا، بعدما صادق قادة الدول الأوروبية يوم الأحد الماضي، على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد، قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر: «هذا يوم حزين. إن خروج بريطانيا أو أي دولة أخرى من الاتحاد الأوروبي لا يدعو إلى الاحتفال، إنها لحظة حزينة، إنها مأساة!».

ليس خافياً على أحد هنا أن الحزن على الطلاق مع بريطانيا، لا يمكن أن يوازي الخوف المتصاعد من مأساة احتمال تفكك الأسرة الأوروبية، وخصوصاً أن هذا الطلاق يأتي كما هو واضح وحاصل، وسط الصعود المقلق للحركات القومية، وتنامي النزعة الفاشية في الأعوام الأخيرة. ولهذا سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الإعلان فور المصادقة على الاتفاق مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، إلى القول: «إن (بريكست) يشكّل دليلاً على أنها لحظة حرجة. والاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إعادة تأسيس، إنه يعاني ضعفاً؛ لكنه قابل للتحسن!».

ولكن كيف؟

إنه السؤال الأكثر أهمية، في وقت يغرق فيه البريطانيون أنفسهم في وابل من الأسئلة، ليس بسبب الاستقالات الوزارية التي دهمت تيريزا ماي؛ بل بسبب الانقسام حول ثلاثة أمور؛ فهناك من يؤيد الانفصال، وهناك من يعارض الانفصال، وهناك من يعارض صيغة الاتفاق الذي وقعته ماي لتنظيم الطلاق، ومسألة «المؤخّر والمقدّم»، وقواعد العلاقات المستقبلية بين بريطانيا ودول السوق.

في السادس من نوفمبر الماضي، أفاد استطلاع للرأي، يعد الأكبر من نوعه، بأن البريطانيين كانوا سيصوتون لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 54 في المائة، مقابل 46 في المائة؛ لكن تيريزا ماي رفضت دائماً هذه الفكرة، بحجة أن العودة عن نتائج الاستفتاء الأول، الذي أجري في يونيو (حزيران) عام 2016 ستكون خطوة تهدد روح الديمقراطية البريطانية!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طلاق يدمِّر الأسرة الأوروبية طلاق يدمِّر الأسرة الأوروبية



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 15:03 2014 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الجوز " عين الجمل " لا يعلمها إلا القليلون

GMT 12:28 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الفرسان يتطلعون للفوز بثاني جولات بطولة "هذاب"

GMT 06:07 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

سيت الأفضل لقضاء شهر عسل لتميزها بالمناظر الجذابة

GMT 03:45 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

مديرة الأزياء جين ماكفارلاند تستعرض مجموعة كافالي

GMT 06:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تصنف المغرب أبرز مُصدّري اليهود منذ استقلال المملكة

GMT 00:00 2014 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

" أوراق بوكافر السرية " جديد الكاتب ميمون أم العيد

GMT 23:10 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رشيد غفلاوي سعيد بانضمامه إلى فريق الساحل النيجيري

GMT 23:08 2017 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

المهاجم فيصل عجب يثبت جدارته مع نادي التضامن

GMT 17:14 2016 الجمعة ,01 إبريل / نيسان

سر إغماض العيون أثناء تبادل القبل على الشفاه

GMT 10:51 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنان أمير كرارة يفاجئ المعجبين بإطلالة مختلفة تمامًا

GMT 17:38 2015 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

عبدالفتاح الجريني يحضر لديو غنائي مع العالمي مساري

GMT 03:16 2015 الجمعة ,22 أيار / مايو

شاطئ مرتيل يلفظ أحد ضحايا موسم الاصطياف

GMT 08:17 2017 الأربعاء ,30 آب / أغسطس

إخلاء السفارة الكندية في برلين
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya