جرادة داء نقص التنمية المكتسبة

جرادة: داء نقص التنمية المكتسبة

المغرب اليوم -

جرادة داء نقص التنمية المكتسبة

بقلم - نور الدين مفتاح

قدرنا مرّة أخرى أن نجبر على الاصطفاف في قضية جوهرها ومبتدؤها ومنتهاها هو الألم. جرادة ليست قضية طارئة لتكون مفرخة لمؤامرة جديدة، جرادة عطب قديم، وهذا المنطلق لا خلاف عليه، ولكن عندما يصل الاحتجاج على العزل التنموي إلى منسوب معيّن، تتفرق بنا السبل، ونضطر للاختيار في ما لا يجب أن يكون محط اختيار ولا مساومة.

صحيح أن جرادة اليوم لم ترتكب فيها خطيئة ما ارتكب في أحداث الحسيمة، حينما وقف زعماء الأغلبية بربطات العنق والياقات والأيادي غير المرتجفة ليقولوا إن المحتجين انفصاليون، ولكن ما جرى ويجري اليوم يجعلنا في ذات السيناريو تقريباً: احتجاج متسامح معه لمدة طويلة وصلت في حالة الحسيمة إلى ثمانية أشهر وفي حالة جرادة إلى أربعة، ثم محاولات لتقديم مشاريع حلول مقابل إنهاء الاحتجاج، فقرار منع التظاهر ثم الاصطدامات التي تخلف ضحايا في صفوف المحتجين كما في صفوف قوات حفظ الأمن.

وبالمختصر المفيد، فإن الفشل الذريع في المقاربة التنموية يورط الدولة في المقاربة الأمنية التي تتغيى استتباب النظام العام، وهذا المبتغى لابد له من آثار جانبية قاسية، ها هي ماثلة أمامنا دما ودموعا وزيادة في الألم والعزلة واليأس.

فهل لابد لنا في كل مرّة من مؤامرة نعلق عليها فشلنا لنبرر اصطدامات نعرف أنها لن تزيد اللهيب إلا اشتعالا ولو توارى وخمدت فورة الجماهير؟ هل لابد لنا من تهمة إحياء جمهورية الريف بالأمس أو محاولة ركوب الحالمين بالقومة على جراح شعب الرغيف الأسود اليوم؟

إننا لا نناقش الآن شرعية التدخل الأمني ولا قانونية مساطر الاعتقالات ولا منسوب عدالة المحاكمات، ولكن نعتبر أن هذا كان آخر الدواء، وهو بطبيعته مرٌّ وله دائما من الآثار الجانبية ما يجعله خطيرا على المصابين بمرض نقص التنمية المكتسبة، وهذه الخطورة لا تنحصر في عدد الأبناء المصابين في المواجهات ولا عدد المعتقلين ولا الجرحى، ولكن في هذا البركان الذي يزداد اشتعالا داخل النفوس، والذي يصبح قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت وحين.

حكاية جرادة أصلا حادثة سير تسببت في جروح خطيرة للكرامة هناك. فهذه البلدة المتاخمة لحدودنا الشرقية عاشت كمدينة منجميّة منذ أن اكتشف لويس جانتي الفحم هناك  قبيل الحماية، وككل المدن المنجمية العالمية، ظلت تعيش على إيقاع العمل الشاق والمدخول البسيط، ولكنها عيشة الاستقرار والشرف، وشاءت سنّة التطور أن يتم الاستغناء عن الفحم الحجري كطاقة أساسية، وهنا بدأ المصير المحتوم يلوح في الأفق، إنه تحول مدينة كاملة من نقطة انتزاع لقمة العيش السوداء من باطن الأرض إلى مدينة أشباح.

وبما أن المغرب لم يكن مطالبا باختراع العجلة، فقد كان من واجب الحكومة أن تنزل بديلا للمناجم التي ستغلقها على الأرض بشكل يقي السكان من موت محقق إذا تركوا لحالهم، وبعد مفاوضات شاقة سبقتها احتجاجات في التسعينيات، تم التوقيع على عقد نهاية مرحلة في حياة أبناء جرادة في 17 فبراير 1998، وأغلقت المناجم رسميا سنة 2001، وانطلقت رحلة البديل المنتظر الذي تتحمل الحكومات بالطبع مسؤولية إنجاحه، إلا أنه بعد 17سنة الآن نجد أن جيلا جديدا رأى النور -والأصح رأى الظلام- وهو مكبل بالفراغ والفشل واليأس. هذه هي دوافع الغضب العاتي للجراديين والجراديات وليس لا العدل ولا الإحسان ولا الشيشان ولا تركمانستان!

إن الغضب مشروع والتعبير عنه مشروع أيضا، ولننعش ذاكرة البعض، فقد كانت جرادة في الثمانينيات والتسعينيات معقلا لليسار وقلعة من قلاع الاتحاد الاشتراكي، بحيث إن شابا نقابيا يساريا انتزع في عهد التزوير مقعد برلماني المدينة، وعايش كاتب هذه السطور كيف كان الوزير القوي إدريس البصري في بعض لقاءاته يبحث عن هذا البرلماني ويناديه وسط الجموع بطريقته المسرحية ويجلسه أحيانا بجانبه لأسباب لا تخفى على لبيب، وهي إن جرادة منذ ذلك الوقت كانت هاجسا أمنيا ولم تكن قط هاجسا تنمويا! وبالتالي فالإحساس بسيف التهميش وضغط المجهول والخذلان ونكث العهود لم يكن ليولد إلا فقدان الثقة في حكومات لم تنجح في خلق بديل لخمسين ألف مواطن مغربي في وضعية خاصة.

هي حكومات تلبس في كل مرة لونا حزبيا، ولا لون وفَّى وعالج ولا نمَّى وما هي إلا الوعود العرقوبيّة تتوالى، ويستفهمون اليوم ويستنكرون على هؤلاء البؤساء الاحتجاج.

لقد كانت الشرارة التي فجرت الكامن من الغضب هي مقتل شابين في السندريات، وهي الآبار العشوائية للفحم التي جعلها الجائعون مصدر رزق لهم. ونفس الشيء في الحسيمة مع مقتل محسن فكري في حاوية الأزبال، وهذا يجب أن يقف عليه الساهرون على استقرار البلاد والعباد، ويستخلصوا منه الدرس الصحيح بدل استنزاف الجهد في استنباط المعاني الخاطئة، فإذا كان بترول المغرب هو استقراره، فهذا الاستقرار يجب أن يتقاسم الجميع كلفته، صبر جميل في أرجاء شاسعة من المملكة الشريفة لملايين الفقراء يقابله عمل جاد وصادق وحثيث من طرف النخب  الاقتصادية والسياسية لمكافأة هذا الصبر. فهل هذه هي المعادلة اليوم؟ بالطبع لا. فالفساد نظام قائم الذات، والحكومات عاجزة أمامه، والمشاريع التنموية متعثرة والأولويات مبعثرة، ولهذا تجد أن المبادرات الرسمية تتحول أمام مثل هذه الاحتجاجات إلى مجرد محاولات لإطفاء الحرائق بخراطيم الوعود التي تفتقد للمصداقية فيطول التعبير عن الغضب، ونصل في كل مرّة إلى ضرورة التدخل الأمني، وبعدها ننسى أصل الداء وندخل في قصة أخرى تتعلق بمن ضرب من؟ ومن البادئ؟ وهل الاحتجاجات سلمية أم لا؟ ولماذا يتربص بنا الإعلام الدولي ويضخم الأحداث؟ وهلم خيوطا لا علاقة لها بالمعالجة الجذرية لمشكل قائم وسيظل قائما، أي أنه مشكل يحسم أمنيا لكنه لا يحسم لا تنمويا ولا اجتماعيا، لينضاف إلى مشاكل أخرى كامنة. فإذا لم يكن هذا هو الخطر الداهم على استقرار البلاد، فما هو معنى الخطر أصلا في القاموس؟ لك الله يا جرادة.

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جرادة داء نقص التنمية المكتسبة جرادة داء نقص التنمية المكتسبة



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"

GMT 13:01 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

رودريجو يكشف عن شعوره الأول لحظة مقابلة زين الدين زيدان

GMT 16:29 2019 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مغربي يقدم على قطع جهازه التناسلي لسبب غريب

GMT 09:59 2019 الإثنين ,26 آب / أغسطس

"رئيس الوصية"..على أبواب قصر قرطاج
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya