بقلم : نور الدين مفتاح
يفرك الإنسان عينيه ليتأكد أن ما يجري أمامه واقع فعلا. ملك المغرب يدخل إلى قاعة قمة الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا وهو عضو كامل العضوية في الواحد والثلاثين من شهر يناير 2017، ومع وجود رئيس ما يسمى بالجمهورية الصحراوية، ويتناول الكلمة أمام 54 من قادة القارة السمراء ليقول: "لقد عدت أخيرا إلى بيتي، وكم كنت سعيدا بلقائكم من جديد، لقد اشتقت إليكم".
ثم ننتظر ما الذي سيأتي في الخطاب بعد هذه الهبّة العاطفية القوية التي كانت من مستوى لحظة لقاء حار بعد غياب مؤسساتي دام 33 سنة، وما الذي سيقوله ملك تعتبره بضع دول جالسة تستمع إليه يقود بلدا مستعمِراً، فيكون الجواب: "إننا ندرك أننا لسنا محط إجماع داخل هذا الاتحاد الموقر. إن هدفنا ليس إثارة نقاش عقيم، ولا نرغب إطلاقا في التفرقة، كما قد يزعم البعض! وستلمسون ذلك بأنفسكم، فبمجرد استعادة المملكة المغربية لمكانها فعليا داخل الاتحاد، والشروع في المساهمة في تحقيق أجندته، فإن جهودها ستنكب على لم الشمل، والدفع به إلى الأمام".
وينتهي الخطاب وقد بهت ممثلو الدول غير الصديقة، وارتاح الأصدقاء القدامى في غرب إفريقيا، والجدد في شرقها، لأن عنوان هذا الكلام المنتظر في لحظة تاريخية بامتياز كان هو باختصار الحكمة. وانتهى الكلام.
ولتقدير هذه العودة وهذا الخطاب وهذا الطريق الطويل من العمل الدؤوب لسنوات في التربة الإفريقية، لابد من استرجاع لحظة وصول الوفد المغربي برئاسة المستشار الملكي آنذاك أحمد رضى اكديرة إلى نفس العاصمة أديس أبابا في 12 نونبر 1984، ليلقي رسالة الحسن الثاني أمام القادة وقد انضم إليهم زعيم البوليساريو عبد العزيز المراكشي كعضو جديد، ويقول: "حان وقت الانفصال، نودعكم ونتمنى لكم حظا سعيدا مع الشريك الجديد".
كان بالإمكان في الخطاب الملكي ذرف الدموع على 33 سنة من الخذلان، ومن ضرب القانون الدولي آنذاك عرض الحائط بقبول عضو لا تتوفر فيه مقومات الدولة، وهو "الجمهورية العربية الصحراوية"، لأسباب سياسية مرتبطة بالحرب الباردة. كان بالإمكان رفع خطاب العودة إلى قصاص مشروع بعدما تحولت الأغلبية لصالح المغرب، كان مفهوما لو تم التفسير لرأي عام مغربي على أن الجلوس مع جمهورية دأبوا على سماع أنها وهمية هو لهذا السبب أو ذاك، ولكن لا شيء من هذا حصل، الذي حصل كان عكس التوقعات التي تخوف منها بعض العقلاء، وهو أن تصطبغ الكلمات بنفس لون الجيل الجديد من خطابات محمد السادس الهجومية التي سمعناها من الرياض إلى دكار مرورا من الرباط، ولكن لكل مقام مقال، وأصبحت للعودة المغربية للاتحاد الإفريقي آفاق أبعد وأرحب من قضية الصحراء ومن المواجهات المنهكة مع الجزائر. إنه اختيار ملكي لم يكن أحد يتكهن باتجاهه إلى حدود الساعة الحادية عشرة والنصف بتوقيت المغرب صباح الثلاثاء الماضي، عندما اعتلى محمد السادس منصة الخطابة ليقول للجميع: "كم هو جميل هذا اليوم الذي أعود فيه إلى البيت".
والواقع أن التكهن باتجاه تحرك العهد الجديد في القارّة الإفريقية ظل صعبا، لأن جمع قطع "البوزل" ليس هينا، سفريات كانت تبدو متفرقة إلى دول بعينها في الغرب الإفريقي، وانتشار اقتصادي بلا ضجيج، فحتى المكتب الشريف للفوسفاط ظل يشتغل بصمت إلى أن انبثقت مشاريع ضخمة قبل سنة فقط قد تصل إلى 10 ملايير دولار! كان الأمر كمن ينفذ خطة عسكرية محاطة بالسرية ولها اتجاهات متعددة، وحده الجينرال يعرف الهدف الاستراتيجي. نحن نتذكر ذلك الاجتماع العاصف مع رئيس الحكومة السابقة الذي نقله التلفزيون، وتم فيه تأنيب الجهاز التنفيذي على التماطل في تسوية ملف المهاجرين الأفارقة، إنه قطعة من كل، وسيتبين في خطاب أديس أبابا أن هذا الكل كان بنيانا مرصوصا برؤية متكاملة منذ البداية، ومن هذا المنطلق يمكن أن نقول إن المغرب عاد فعلا من الباب الكبير، عاد بمشروع هزم أسلحة الخصوم التي كانت تعتمد على الشراء، وقال إنه إذا كان لابد من تجارة في علاقات دولية مبنية أساسا على المصالح، فلا أهم من تجارة مبنية على الصح، على الاستثمارات، على شيء تتشارك به مع الآخرين، فيربحون به التنمية والاستقرار وتربح معهم، بدل الريع الذي لا يربح فيه إلا أشخاص تذروهم الريح بعد ذلك.
إن المغرب الذي مازال يعاني من الهشاشة داخليا، ومشاكله مع الشغل والتعليم والصحة والفوارق كبيرة، استطاع أن يسوق في إفريقيا واقعيا صورة البلد الواعد، وأصبح فاعلا اقتصاديا كبيرا ولاعبا سياسيا وازنا. والمغرب الذي بدا أنه يجتر ديبلوماسية متثائبة ضرب اليوم ضربة أحيت العظام المتثاقلة، ولا مزايدة ولا مداهنة في القول إن المغرب حقق انتصارا كبيرا، ليس بالعودة للاتحاد الإفريقي فقط ولكن بطريقة العودة ومضمونها وآفاقها. إنها باختصار أكبر ضربة لمحمد السادس طيلة مدة حكمه.
إضافة إلى مشاكلنا الداخلية التنموية، هناك مشاكل السياسة والساسة، وهناك "البلوكاج" الملعون، ولابد أن نستحضر اليوم مستجدات أتت من أديس أبابا لإعادة قراءة بعض التأويلات التي تمتح من نظرية المؤامرة. لقد تبين أن الإسراع بتشكيل مجلس النواب قبل تشكيل الأغلبية الحكومية كان ضرورة ملحة ومصلحة وطنية أعلى من المشاورات الحكومية المستمرة، وكم يبدو صغيرا اليوم ما يجري بالرباط من سجالات مقارنة مع ما جرى في أديس أبابا من إنجازات. وقد تبين أن عبد الإله ابن كيران لم تخنه حصافته، واختار الصعب من أجل الوطن، وساهم في تشكيل هياكل مجلس النواب، ولم يختر السهل بالاستقواء بمقاعده كما ينصحه بذلك من لا مقاعد لهم إلا إذكاء النار بدعوى مبادئ مجردة لم يسبق أن أفلحت في أي سياسة دون الأخذ بعين الاعتبار كل جوانب المعادلة، وإلا يكون المصير هو الاصطدام بالحائط. لقد تغلب التعقل لحد الآن رغم التأخر، والأكيد أن رياح أديس أبابا ستهب ربما على حي الليمون حتى ينتعش المشور السعيد، فالوقت حان للانخراط في هذا المشروع الإفريقي الكبير الذي اتضح أنه سيكون ورش المغرب الذي سيساعده على التنمية وعلى تدبير انتقاله الديموقراطي، ليس بمنطق الغلبة ولكن بمنطق التوافق.
سئمنا من حسابات "الخوشيبات" وتصنيف الناس على فسطاطين، الكفار بالديموقراطية والمتعبدون في محرابها، وإعطاء النقاط في الاستقلالية والوعظ السياسي والإرشاد في المشاورات، سئمنا هذه الإيديولوجيات المتجاوزة، فهذا زمن تكتل الجميع من أجل المغرب. واليوم، يجب أن تكون التنازلات المتبادلة هدية الأحزاب للوطن ولإفريقيا وللمغاربة، فالناس لا يصوتون على الحكم في البلاد ولكن يصوتون على جزء يسير منه، وبالتالي فمن أجل القضايا المصيرية قد يكون التواضع مفيدا والتسيير ضروريا.
عشنا لحظة تاريخية وستكون بالتأكيد ملهمة للجميع، فهنيئا لنا جميعا والعود أحمد.
المصدر : جريدة الأيام 24