بقلم - نور الدين مفتاح
لماذا يستطيع المغرب في كل مرة أن يسير على حبل معلق بسلاسة في قضايا خارجية شديدة التعقيد، ولا يستطيع ذلك حين يتعلق الأمر بحبل معلق على قضايا داخلية ساخنة؟ جواب صعب على سؤال محيّر.
لقد لعب المغرب في أزمة الخليج الأخطر في تاريخه، بعد احتلال الكويت من طرف صدام حسين، في ملعب مليء بالمنزلقات والمنعرجات، وعلى الرغم من علاقاته القوية مع السعودية، وعلاقاته شبه الأسرية مع الإمارات العربية المتحدة وقد درس الحاكم الفعلي للإمارات الشيخ امحمد مع محمد السادس بضع سنوات بالمدرسة المولوية بالرباط، وعلاقاته الوطيدة مع البحرين التي قطع بسببها علاقاته الديبلوماسية مع إيران، وعلى الرغم كذلك من علاقاته الباردة مع قطر، ومن حوادث سير عديدة مسجلة في سجل العلاقات بين البلدين، وخصوصا بسبب قناة "الجزيرة" التي أغلق المغرب مكتبها بالرباط مبكرا، فإن الموقف الرسمي للرباط كان متوازنا لا ينتصر لقطر، ولكن لا يصل إلى حد القطع معها، وينتصر ضمنيا لموقف خصوم الدوحة دون أن يجاريهم في تطرف قراراتهم، وكان مسك الختام هو التمييز بين البعد الإنساني في الأزمة والبعد السياسي، بأن أرسلت الرباط طائرة محملة بالمواد الغذائية إلى الدوحة، فلنقارن هذا الموقف مع الموقف الموريطاني مثلا، الذي سارع لقطع العلاقات مع قطر على الرغم من أنه يبعد عن المنطقة بأكثر من تسعة آلاف كلم، لنرى الفرق الجلي لمقاربتين مختلفتين تماما.
صحيح أن مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أفزع أمراء الخليج، واندفاعه الأهوج جعلهم من الوهلة الأولى يؤدون الثمن، حيث عاد من السعودية التي زارها مؤخرا بصفقات تقدر بـ 450 مليار دولار، وهو رقم صاروخي، وصحيح أن هذا الاندفاع لعب دورا في ما جرى لقطر من قطع العلاقات الديبلوماسية معها من طرف الدول الخليجية الثلاث الآنفة الذكر زائد مصر، وإغلاق الحدود والمجال الجوي والبحري وطرد القطريين، ولكن صحيح أيضا أن قطر لعبت بالنار، وساهمت بالفعل في قلب بعض الأنظمة في ما عرف بالربيع العربي، ولكن مؤخرا لعبت بما هو أخطر، حيث قدمت لجماعات إرهابية مليار دولار نقدا لفدية 26 من أفراد العائلة الحاكمة كانوا مختطفين، وقدمت ما بين 100 و300 مليون دولار لجماعات كـ "أنصار الشام" أو "فتح الشام"، حسب ما أوردت صحيفة "الفايننشال تايمز".
وإذا أضفنا إلى كل هذا التقارب القطري الإيراني مع ما يشكله الملف الشيعي من خطر داهم على استقرار السعودية ذات الحضور الشيعي الوازن، والبحرين التي تحكم فيها الأقلية السنية الأغلبية الشيعية، فإننا سنكون لا محالة على أبواب حرب إقليمية مدمرة ستتجاوز الخليج إلى تركيا وباكستان، وستشتعل واحدة من المناطق الأكثر غنى والأكثر حساسية وضمانا للأمن الطاقي في العالم، وأما ما كان يسمى بالعالم العربي، فسواء اشتعلت الحرب أو لم تشتعل فإنه اليوم في ذمة الله. ولهذا ربما أصبح المغرب متبرما من الشأن العربي، واعتذر عن عقد قمة عربية بالرباط كانت مبرمجة من قبل، احتضنتها بدله نواكشوط. إننا وبكل أسف أصبحنا إزاء مستنقع عربي لابد له من الكثير من الحيطة والحذر والحذاقة لتجنب السقوط فيه، والخوف في الموقف المغربي هو ألا يفهم من طرف أصدقائه هناك على أساس أنه تحيز، وقد شاهدنا أول أمس كيف أن قناة أبو ظبي نشرت خريطة المغرب وهو مفصول عن صحرائه، في نفس الوقت الذي كان وزير الخارجية بوريطة يحمل رسالة من الملك إلى حاكم الإمارات.
على الحبل الداخلي المغرب يترنح، والحسيمة لم تعد مطالب شغل وصحة وبنية تحتية وسد سيوفر ماء الشرب للحسيميين إلى غاية 2030، كما قال إلياس العماري، بل أصبحت الحسيمة علامة على كل أعطابنا، وأصبحت حراكاً قويا يسائل المغاربة والمغرب على الطريق الذي نسير فيه، وعلى الاختيارات التي تبنتها الدولة بعد فشل الثورات العربية، وعلى هذه الفوارق الاجتماعية الأكبر في العالم، وعلى "الحكرة" بمفهومها العميق الذي يمس أوتار الكرامة الإنسانية.
الحراك ترجمته أحسن ترجمة المسيرة الهادرة ليوم الأحد الماضي بالرباط، والتي التحم فيها العلماني والإسلامي واليساري واليميني، والريفي والعروبي والصحراوي والسوسي. كانت مسيرة مغربية بامتياز حتى ولو قيل إن العدل والإحسان طغى عليها أو هو الذي قواها، ولكن بالنسبة للذين يريدون قراءة الرسالة مباشرة فالعبارة مسعفة، وهي أن حراك الحسيمة هو حراك المغرب نقطة إلى السطر.
إن الحكومة التي ركبت تركيباً بعد خمسة أشهر من البلوكاج، وبتلك الطريقة المهينة للإرادة الشعبية وليس لحزب العدالة والتنمية، قد كان مصيرها ينتظرها مباشرة بعد التعيين، وبدت عاجزة فاقدة لأي حضور باهتة لا طعم ولا رائحة لها. هي تصرف الأعمال والناس لا يعرفون لا وزراءها ولا ما يعملون، وحتى البرلمان نسي الناس وجوده ومعه المعارضة، وكم من وفد وزاري يطير إلى الحسيمة أو لجنة تجتمع في الرباط ولا أثر لها إلا في نشرة أخبار المساء. قد تكون الحكومة تشتغل بجد وبحسن نية ولكن هذا غير كافٍ، هناك شيء ما ينقص حتى ينطلق المحرك ويسمع الناس هديره. هناك عجز فظيع في لفت الانتباه وتحريك الراكد وإيقاظ الهمم.
إنها نتيجة كارثية لاختيار تجريبي من سوء حظه أنه تصادم مع امتحان شعبي تعيشه الدولة، وكان لابد لها من ذراع أقوى من هذه الحكومة لتواجه هذا الامتحان. واليوم الكل أصبح يردد الكلام نفسه، أن الوسطاء انتهوا، وهذا خطر على الملكية، فإذا كان الجميع يقول هذا فمن هو السبب؟ من كان يطبل لما نحن فيه؟ من كان يقتل الوسطاء وسيطاً وسيطاً بدعوى أنهم سيزاحمون أو أنهم مدانون باستهداف النظام إلى أن يثبت العكس؟
لقد انتهى عهد إنجاح عملية تفريخ حكومات إدارية، ولذلك يستمر الحراك وتنجح مسيرة هادرة وطنية سلمية، والحل الوحيد هو العودة إلى الطريق السوي، أي أن الإصلاح لا يمكن أن يتم بوسائل نابعة من نقيضه، فهل يمكن رحمكم الله أن تلعبوا في الداخل كما تفعلون في قضايا خارجية؟ إنها قضية إرادة فقط، ولابد أن تفعل قبل فوات الأوان.