بقلم - نور الدين مفتاح
كنا ننتظر الحدث فإذا بنا نغرق فيه. خلال عشرين يوما ما بين خطابين ملكيين، فاضت القرارات والإعفاءات والإشارات، وتناثرت الرموز في الحقل السياسي الملغوم: محو وزارة كاملة للماء، وشرخ في التحالف الحكومي، وطرد وزير المالية بوسعيد وتعويضه ببنشعبون، رئيس البنك الشعبي، وإعادة الخدمة العسكرية، والمصادقة على القانون الإطار للتعليم بما فيه من عودة للغات الأجنبية وتكسير طابو المجانية، والعفو الجزئي عن معتقلي الريف، وحزمة أخرى من التوجيهات والتوجهات رأس رمحها هو هاجس المملكة الشريفة اليوم، وهو الشباب.
وبدون مواربة يمكن أن نستشف مما جرى توطيداً لدعائم الملكية التنفيذية في المغرب وحسما نهائيا في التأويل الرئاسي للدستور، وبصما بالعشرة على وجود طبقتين متباعدتين وهما طبقة الحكم وطبقة التدبير التي توجد في منطقة زلازل نشطة، وحسب منطوق الخطب الملكية، فإن مسؤولية التدبير بدورها غير مرضي عنها لأن أدواتها، وهي الأحزاب، ميئوس منها، ولا يستعمل هذا النعت هكذا ببعده المستقبلي ولكن استشفافه بين السطور يبقى موضوعيا.
لقد ساد هناك منطقان في المغرب الجديد، منطق ما قبل 2011، وبلغ أوجه سنة 2007، ومغرب ما بعد 2011. الأول كان يعتبر الديموقراطية ثانوية بالمقارنة مع النمو، وكان يعلي من شأن التكنوقراط، ويعتبر الأحزاب شائخة بعقلية عقيمة، إضافة إلى وجود حزب استثنائي هو العدالة والتنمية لابد من تحجيمه، والطريق إلى ذلك لم يكن هو خلق تيّار مجتمعي حداثي ليبرالي أو ديموقراطي اجتماعي لمواجهة أصحاب اللحى المشذبة في إطار الانتقال الديموقراطي، ولكن خرج حتى من الديموقراطيين من سار في اتجاه نصرة ما يمكن تسميته بالفاصل السلطوي، لأنه حسبهم لا ديموقراطية لغير الديموقراطيين، وكانت النتيجة هي تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة كوصفة استراتيجية لإغلاق الجبهة السياسية أو السياسوية والتفرغ للحكم الذي يسميه المستهدفون بالتحكم.
ولكن هذه الوصفة الفوقية أبانت عن محدوديتها قبل حتى بزوغ 20 فبراير، واجتمع المتنافرون والمتناطحون من عبد الله القادري إلى الوزاني إلى صلاح الوديع إلى بنعدي وبنشماس وحازب وإلياس والباكوري… جمهرة من المتناقضات حصدت الأغلبيات المصطنعة وتكسرت على أول موجة لم تكن أبدا متوقعة في مخططات دائرة الحكم. وجاء دستور 2011 بتنازلات دستورية غير مسبوقة حتى وإن لم تصل إلى الملكية البرلمانية، ولكن بعد شهور على بداية حكومة السيد عبد الإله ابن كيران وانزلاق الثورات العربية إلى التراجع عموماً، تبين أن حجم التنازلات كان مؤلما، وبدون إطالة، بدأ التفكير في استرجاع ما ضاع، لسبب واضح هو أن الحكم يساس بموازين القوى، وقد تبين أن رجحان هذا الميزان في شهور لصالح الديموقراطية كان قوسا وليس عاملا بنيويا، وبقيت قناعة الحكم هي ما تمت صياغته سنة 2007، أي حزب تكنوقراطي تدبيري يرتفع فوق مكونين: المكون الإسلامي، ومكون الأحزاب التاريخية الذي اضمحل موضوعيا بفعل ما تعرض له من ضربات وما عرض نفسه له من تدمير ذاتي أعقبه صراع من أجل المغانم الشخصية. وهذا ما كان يهيء أو يهيَّأ لحزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة عبد العزيز أخنوش كبديل لحزب الأصالة والمعاصرة.
إن ما تملكه الدولة في المغرب يبدو أنها تدافع عنه بشراسة، وهذا ناجم عن معطيات قد تبدو غريبة ولكنها الواقع، فشعبية الجيش والجهاز الأمني أكبر من شعبية الأحزاب السياسية مثلا حسب دراسات موثوقة، وبالتالي فمن يعتقد أنه أصبح بشرعية شعبية هادرة يجب أن يوضع في مكانه أو أدنى.
وضع ابن كيران في الرف ولم يبق له من الحكومة إلا حارسان شخصيان كذكرى، وزلزل حليفه التقدم والاشتراكية زلزاله مرّتين، والبقية تأتي، وتحول اكتساح العدالة والتنمية الانتخابي إلى انتصار في فنجان، وزلزل الصف الداخلي لأكبر حزب ملتحي وأكثر الأحزاب تماسكا، وكانت النتيجة هي أن معركة استرجاع تنازلات 2011 هاته أدى الجميع ثمنها، المسترجع والمسترجع منه، وبدأت الأمور الكبيرة تصغر والهيبة تضمر والسخط الشعبي ينتشر واللامبالاة تتعاظم.
ولو كان المشكل سياسيا فقط، لهانت هذه الأمور، ولظلت نقاشا بين متخصصين أو مناضلين حول منسوب الديموقراطية وجدواها وتوازن الشرعيات وغير هذا مما هو متشعب وأثير، ولكن المشكل الذي يجد معه الجميع نفسه في ورطة، أي دائرة الحكم ودائرة التدبير، هو أن لا نمو ولا تنمية نجحت، فحتى في تجارب دول شمولية، كانت الديموقراطية غائبة والتنمية حاضرة، ولذلك إضافة إلى هذا الاكتئاب السياسي العام، لا نجد إلا خطاب الأزمة، وعنوان المرحلة المعلن هو الفشل. أي أن الفرق بين مملكة الحسن الثاني واليوم هو أنه بالأمس كان هناك خطاب التدليس "العام زين"، واليوم هناك خطاب الصراحة، ولكن تنقصه الإجابة على سؤال جوهري يطرحه الجميع، وهو من المسؤول؟ التعليم فشل فشلا ذريعا ولكن من المسؤول؟ نفس الشيء ينطبق على الصحة والتشغيل وبطالة الشباب وفشل النموذج التنموي وفشل المخططات السياحية وقس وزد.
اليوم هناك رغبة في الرهان على حلول جديدة من دائرة الحكم مباشرة، وهي ليست سحرية، ولكنها محاولة حساسة لإصلاح قطاعات استراتيجية. إنها سيف الحجاج الذي يقطع الرؤوس التي أينعت مهما كانت، ويثبت الرؤوس التي قد تصلح لهذا الورش، ولكن حتى وإن وضعنا تعميق الخيار الديموقراطي بين مزدوجتين، فإن المطلوب بإلحاح دائما هو أن تنجح الوصفة الجديدة التي لم يكتب للمحاولات قبلها في العهد الجديد أي نجاح، فأصابع المصلح تشتغل في أمعاء الاحتقان الاجتماعي، ومن النتيجة سنعرف هل الديموقراطية ضرورية للتنمية أم العكس، المهم أن الاستقرار لا يحتمل التعايش مع لا تنمية ولا ديموقراطية. ودخول موفق للجميع إن شاء الله.