بقلم : عبد الحميد الجماهري
اختيار الرئيس ترامب معاونيه من بين «قدامى المحاربين المحافظين»، رأت فيه نخبة غربية تحولات جوهرية ومنها «الانهيار الشامل غير المسبوق لكل المؤسسات الأمريكية» كما كتب بول بيرمان، الكاتب والمفكر صاحب«اللباس الجديد للرعب».
وقد رأى أن المؤسسات، من قبيل الصحافة والجامعات والنقابات التي كان لها وزن في ما سبق على الرأي العام، لم تعد تمارس تلك السلطة ، وهو ما هيأ نصر ترامب. وفي مقالته المنشورة مترجمة في يومية لوموند يسخر من «التحليل السياسي الذي يشتغل بناء على مبدأ واحد هو التناظر التاريخي»، والحال يتعلل الباحث بأنه «لا شيء في التاريخ الأمريكي المعاصر يناظر الانتصار الذي حققه ترامب».
هذه النزعة الحربية، ربما هي التي أشار إليها فرانسوا كيسي cusset، باسم «الديمقراطية التي تتغذى من الحرب». حيث يرى أن انتخاب ترامب، سيفرض مواجهة حتمية ودولية بين غرب يبحث عن «التقوقع» داخل جدرانه وبلدان الجنوب باعتبارها «المعطى الإيديولوجي والسياسي» الجديد! كما يكشف عنها دونالد ترامب، وحسب ما يصفها المؤرخ فرانسوا كيسي، هي الحرب الأهلية، الوطنية والدولية» حرب أوروأمريكية، لأوروبا وأمريكا المنغلقتين (من البريسيت الى ريو غراند) ضد الجنوب المنخور، حرب الإنسان الأبيض السائر نحو الانحدار ضد الأقليات التي صارت أغلبيات، حرب المستوحد البشري ضد طبيعة في خطر، حرب نخبة غربية ضد إسلام يعتبر مصدر كل الشرور«. بتعبير المؤرخ المذكور.
إن التصويت هنا هو الإعلان الموضوعي للحرب. أن تصوت معناه إعلان حرب في أمريكا لأن «الديموقراطية الاعلامو-انتخابية، هي السلاح رقم واحد الآن..
قد تقول السيوسيولوجيا الانتخابية أن الأمر يتعلق بتصويت عقابي، لكن الحرب التي تغذي الديمقراطية، تغذيها بالشعبوية، أو بالضبط بالرغبة الأكيدة في التغيير من أجل التغيير مهما» كان برنامج التغيير أو الفاعلون فيه- بالاستناد إلى «بشاعة ذهنية للتفوق الأبيض»!
لقد اجتهد الجزء اليقظ من النخبة أمام التحول بدون السقوط في الكليشيهات البسيطة، بالاعتراف، كما جاء على لسان الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بول كروغمان، «من الممكن أن تكون أمريكا نظاما سياسيا ومجتمعا فاشلين»، أو بلغة المحافظ الليبرالي الشهير طوماس فرديمان الذي رأى أن بلاده» تتكسر مثل بيضة هشة»!
الشكل الداخلي للحرب هو هذا الانشطار الذي وصفته أقلام نيرة في أمريكا..
إن ترامب هو تجسيد للفوضي النيوليبرالية، التي يمدحها الكثيرون عندنا، هو وصول هذه الفوضى التي أغرقت العالم منذ ثلاثة عقود إلى السلطة في أعلى الهرم الأمريكي..
من هنا نكون معنيين بالمصير الذي ينتظر بلادا من الجنوب تجرب في نفسها الصعود .. إلى الهاوية الليبرالية.
والإعلام في هذه الديموقراطية التي تتغذى من الحرب؟
بالنسبة لجوليا كاجي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة باريس، «له حظ من المسؤولية في هذا الاختيار».
فوسائل الإعلام تعطينا «رؤية» العالم الذي تريده هي لنقرأها، فالخبر أو المعلومة ليست هي التمثل الدقيق للواقع بل هي «بناء الواقع من طرف الذين يصنعونه». الصحافيون لم يعودوا يعيشون حياة الناس البسطاء بل، يصفونه، لهذا لم يشعروا بالتحول الواقع!
هذا التباعد يفسر جزئيا انعدام الثقة بين المواطن ووسائل الإعلام، كما بدأت ملامحه تظهر بين أوروبا الغربية وأمريكا، … والصحافيون يشتركون مع أصحاب استطلاعات الرأي بأنهم يعيشون في قوقعاتهم الذاتية، طالما أنهم رهينة جوار مشبوه مع أصحاب القرار….
ولعل أحسن وصف ، هو الذي كتبه باسكال بروكنير الروائي والباحث المعروف، بقرابته الفكرية مع المفكرين الأحرار، إذ أدرج اسم ترامب ضمن من سماهم« نادي التيستوسطيرون»،testosterone (إذ تفرز أدمغة الذكور قدرا أقل من مادتي أوكسيتوسين وسيروتونين، وقدرا أكبر من مادتي توستيستيرون وفاسوبريسين، بخلاف أدمغة الإناث، مما يدفع بالذكور إلى الدخول في منافسات سعيا إلى إثبات قدر أنفسهم وهويتهم) إلى جانب بوتين وأردوغان وفيكتور أوربان الهنغاري.. والذين ينافسون بعضهم البعض ويدمرون معارضيهم .. وتعجبهم أنفسهم عندما يرون استسلام .. ناخبيهم!
الحرب التي تغذي الديمقراطية، جعلت أمريكا حافظة السلام ، حتى في أوروبا، وهو ما جعل النخبة القلقة فيها تتساءل::هل ستصل القارة العجوز إلى مستوى النضج وتتحمل مسؤولية بناء دفاعها الخاص، لاسيما مع تهديدات ترامب بإعادة النظر في كل المعاهدات الاقتصادية والعسكرية، بما فيها معاهدة الحلف الأطلسي..؟.
يرى بروكنير أيضا في تفسير فوز ترامب «عودة الشعب كمتخيل جمهوري». فقد «غاب الشعب، كما سطره اليسار واليمين معا، لفائدة الأقليات، وهكذا تفوق الإثني على الاجتماعي، والأخلاقي على السياسي، والذاكرة الحية على التاريخ البارد، والصراع العرقي على الصراع الطبقي».. وأصبح التعريف الإثني، أو العقدي والنوعي والجنسي هو الذي يحدد وجود الأفراد..
والواضح من القراءات العميقة لفوز ترامب أن العقل، السياسي أو السوسيولوجي أو الفلسفي، لم يغب ولم يستسلم لنزوعات «هرمون التيستوستيرون» الذي يبني الكثير من الهويات السياسية، في الغرب الغربي.. و حتى في الجبل عندنا!
انتهى