عودة الباهي

عودة الباهي

المغرب اليوم -

عودة الباهي

بقلم : حسن طارق

وفيًّا لنهجه في حراسة العلامات المضيئة لتاريخ الكفاح الديمقراطي للشعب المغربي، يواصل المجاهد عبدالرحمن اليوسفي في خرجات نادرة ومعبرة، صيانة الذاكرة التقدمية من التلف الذي أصاب الفكرة الديمقراطية، ومن أعطاب الرداءة السائدة .

هكذا، وبعد رعايته وإشرافه الشخصي على تظاهرة الاحتفاء بالشهيد المهدي بنبركة، يلتفت اليوسفي لرمز من رموز الحركة الاتحادية والصحافة الديمقراطية، مترئسا لقاءً مخصصا لذاكرة الصحافي “محمد الباهي حرمة” (1930-1996)، في مقر وكالة المغرب العربي للأنباء، مساء الجمعة الماضية .

اللقاء المنظم من طرف حلقة أصدقاء الباهي، والذي يصادف الذكرى 20 لغياب هذا الراحل الكبير، تميز، أساسا، بتقديم عمل ضخم، أشرف على إعداده عباس بودرقة، يتضمن خمسة كتب، مخصصة بالكامل لتجميع “رسالة باريس”، وهي المقالة الأسبوعية التي ظلت تُنشر في جريدة “الاتحاد الاشتراكي” قرابة عقد من الزمن (1986-1996) .

بالنسبة إلى جيلي على الأقل، كانت هذه المقالة الاستثنائية في الصحافة المغربية، مدرسة لوحدها، وجنسا قائم الأركان في الكتابة. المقالة التي كثيرا ما شغلت صفحة بالكامل أو أكثر، كانت كافية لكي تنفد الجريدة – التي تصدر حينها  عشرات الآلاف من الأعداد – باكرا من الأكشاك، ولكي تثير نقاشات لا تنتهي.

كان الأمر يتعلق بنصوص تجمع بين التحليل المستند إلى معرفة عميقة بالتاريخ والقضايا والشخصيات الفاعلة، وبين كثافة في المعلومات والأخبار الطازجة. كل ذلك بلغة عذبة وسرد ممتع وسلس، يتقاسم من خلاله “الباهي” مع متتبعيه تفاصيل مشاهداته وقراءاته ومحكياته وحواراته، مستثمرا ذاكرة شخصية متقدة وغنية تتجاور في أعماقها صنوف عديدة من القول الشعري والروائي والسياسي والفكري .

لم يكن مجرد صحافي يلهث بهاجس وظيفي وراء آخر الأخبار. ولأنه انتقل إلى القلم بعد أن حمل بندقية جيش التحرير، فقد كان الباهي ملتزما برسالة الكلمة والرأي والموقف. في كثير من كتاباته كان التاريخ العام يرتبط بالتاريخ الشخصي، وكانت التقاطعات الكبيرة بين الذاتي والموضوعي، والتي صنعها مسار استثنائي، تبدو بقوة في ملفات الصحراء والعلاقات المغربية ــ الجزائرية، حيث الصحافي الذي يستعيد التاريخ وتعقد الأحداث لإضاءة تطورات الحاضر، يكون نفسه الشاهد على الوقائع والفاعل في التاريخ .

كتب الباهي عن السياسة الوطنية، جيش التحرير والحركة الوطنية، الصحراء، فلسطين، المغرب العربي، فرنسا، الجزائر، الخليج والشرق العربي. فعل ذلك وهو مدجج بخبرة حياة سياسية صاخبة، ومستند إلى عشرات القراءات من كل الآفاق، ومحاط بشبكة واسعة من الصداقات التي شملت أوساط الأدب والفكر والسياسة والصحافة في الشرق العربي ومغربه، وفي أوروبا وفرنسا.

كعاشق كبير لباريس وللصحراء، ظل ينتقل بسلاسة بين قراءة المعلقات وفكر الأنوار، يقرأ بنهم ويكتب بغزارة، وكمناضل بالسليقة ظل متمسكا بحياة الزهد والتعفف.

من صدف التاريخ، أن تحل الذكرى 20 لرحيل الباهي، في نفس أسبوع وفاة محمد عبد العزيز. اختار الثاني “أطروحة” الانفصال، وتمسك الأول بخيار الوحدة، لذلك عندما عرضت عليه قيادة الجزائر زعامة جبهة البوليساريو رفض أن يصبح “لينين” مجرد موظف لدى “فرانكو”، كناية عن موقفه من تحول شعارات ثورية براقة مثل حق تقرير المصير، إلى مجرد واجهة للاستعمال الرجعي في خدمة سياسات هيمنية من لدن القوى الإقليمية .

من المؤكد أن الروح الجميلة للباهي، قد أطلت بخفة على أجواء احتفاء الجمعة، وأنها تفحصت جيدا في الوجوه والقسمات، وأرخت سمعها لكلمات المنبر ووشوشات الممرات.

هذه الروح التي أعاد لها وفاء الرفاق والأصدقاء ألق الحياة ونضارتها، قد تكون سخرت – بألم – كعادة صاحبها من رفقة كانت ملتفة حول مشروع وقضية ومستقبل، فتحولت إلى مجرد جماعة بماض مشترك توزع القليل من النوستالجيا بكل العدل الممكن على مواعيد السنة .

في تناص بليغ اختار “بودرقة” أن يستعير من الراحل “عبدالجبار السحيمي” جملته الصغيرة “يموت الحالم ولا يموت الحلم”، كعنوان فرعي للكتاب التكريمي للباهي.

فعلا، في هذه الأوقات الصعبة من حياة الفكرة التي ألهمت اليوسفي والباهي وبنسعيد والأجيال اللاحقة المؤمنة بالوحدة والديمقراطية، نحتاج بقوة إلى تفاؤل السحيمي وإرادية الباهي، حتى نُعاند ما يشبه واقعا مريرا وقاسيا، ليس سوى:  “وفاة الحلم نفسه”!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عودة الباهي عودة الباهي



GMT 09:40 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

فعول، فاعلاتن، مستفعلن.. و»تفعيل» !

GMT 06:51 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

من يسار ويمين إلى قوميين وشعبويين

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 06:13 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

خطة حقوق الإنسان: السياق ضد النص

GMT 07:07 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

المهنة: مكتب دراسات

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya