“كذلك كان “ أو بحثا عن “verbatim” المغربي

“كذلك كان “.. أو بحثا عن “verbatim” المغربي

المغرب اليوم -

“كذلك كان “ أو بحثا عن “verbatim” المغربي

بقلم : حسن طارق

في الكتاب الأخير لامبارك بودرقة وشوقي بنيوب، “كذلك كان”، مزيج آسر من طراوة الشهادة، جمالية السرد، غزارة التفاصيل وعمق التحليل. على أنه في الآن ذاته، ليس مجرد محكيات ويوميات فاعلين مركزيين في تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، ولا مجرد بحث في سياقاتها ومآلاتها.

أبعد من ذلك، يتعلق الأمر بإعادة بناء لتجربة العدالة الانتقالية المغربية، بمرجعياتها، محطاتها، وجوهها، مخاضاتها، ومخرجاتها .

“امبارك بودرقة” و”أحمد شوقي بنيوب”، مناضلان يمثلان، من ضمن ما يمثلانه من قيم النضال والنزاهة والمسؤولية، خبرة مضاعفة لجيلين من أجيال النضال السياسي والحقوقي لبلادنا، جيل الستينيات الذي جرب الانعطافة التراجيدية للحظة ما بعد الحركة الوطنية في مواجهة الانزياح الاستبدادي لدولة الاستقلال، وجيل السبعينيات الذي وجد أحلام الشبيبة اليسارية في مواجهة مباشرة مع زمن الرصاص .

إلى ذلك، يمثل الرجلان مدرستين سياسيتين متجاورتين في المسار، مختلفتين في المرجعية الفكرية والفلسفة التنظيمية والثقافة الحزبية، المدرسة الاتحادية، ومدرسة اليسار الجديد .

على أنهما نهلا من معين تجربة حقوقية مشتركة، أهلتهما لبناء حالة تواطؤ فكري وسياسي وإنساني، سمحت بانخراطهما في مغامرة ثنائية تحمل سياقات التزاماتهما السابقة نحو أفق جديد، من خلال “مركز النخيل للدراسات والتدريب والوساطة”، بمدينة العيون، وهو المركز الذي كان من أفضاله تجميع “الثروة” الصحافية للكاتب والمناضل الاستثنائي محمد باهي .

الكتاب/ الوثيقة “كذلك كان”، بالنسبة إلى الحقوقيين شهادة غنية، وضرورية لبناء الخلفية العامة لسياق العدالة الانتقالية المغربية المتميزة بانخراطها ضمن استمرارية نظام الحكم نفسه، وبالنسبة إلى السياسيين درس ملهم في تدبير لحظات الانتقال الديمقراطى في مسارها الحقوقي، وهو بالنسبة إلى الباحثين حالة نموذجية لجدوى “الإصلاح”، في ملف حساس ومعقد، بما هو تمرين شاق وحاجة ماسة إلى التفاوض وإعادة التفاوض، ومنهج قائم على البحث المضني عن المشترك، وتملك فضائل الاعتراف والتواضع والحوار والنفس الطويل .

حيث يشعر القارئ المنبهر بدسم المادة وثرائها، بأنه يقف مباشرة خلف الباب الموصد لمطبخ إنتاج القرار السياسي، وأنه يملك كوة ضوء صغيرة تمكنه من إعادة بناء وتركيب تفاصيل قرارات استراتيجية في المغرب الحديث، انطلاقا من أدوار الفاعلين، وتقاليد المؤسسات الرسمية، وحيوية دوائر الاستشارة، وذكاء الحركة المدنية، و”تقارب” المعتدلين من كل الجبهات، وحكمة الوساطات.

وقبل ذلك، وبعده، الكتاب بالنسبة إلى المواطنين المنشغلين بأمر بلادنا، نافذة مضيئة للإطلاع على صفحة فارقة من سجل تضحيات الشعب المغربي وقواه الديمقراطية، وجهد نخبه السياسية والحقوقية من ضفتي المجتمع والدولة، في اجتراح صيغة مغربية لترسيخ ضمانات عدم تكرار تجارب القمع والألم، طريقا لتدبير السياسة والاختلافات.

إصدار هذا الكتاب، الذي يذكرنا قطعا بمؤلف “جاك أطالي”، الذائع الصدى “verbatim”، فضيلة حقيقية في باب الوفاء للذاكرة، ذلك أن المنجز البحثي والتوثيقي والتحليلي والتأريخي، الذي اتخذ كأفق له التفكير في تجربة العدالة الانتقالية، لا يعادل موضوعيا قيمة التجربة وأبعادها .

إذ ليس في الخزانة المغربية، سوى نزر قليل من الكتابات التي تُعنى بأدب العدالة الانتقالية، سواء من حيث التأصيل النظري والمفاهيمي (الكتاب المؤسس للأستاذ شوقي بنيوب)، أو من حيث التقييم المدني والحقوقي للتجربة من خلال مساءلة تقريرها الختامي (وثيقة “الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان”، التي أشرفت عليها الأستاذة خديجة مروازي)، أو من حيث القراءة من زاوية علم السياسة (دراسة الأستاذ عبد الحي المودن)، أو من حيث التناول الفلسفي والفكري، حول مدارات مفاهيم الحقيقة، الإنصاف والمصالحة (كتابات الأساتذة كمال عبد اللطيف، محمد المصباحي، محمد سبيلا، سليم رضوان، نور الدين أفاية).

توحي تجربة الهيأة كما نعيد قراءتها في “كذلك كان”، بدرس مركزي، يتعلق بأن السياسة ليست مسارا خطيا لتنزيل توجيهات فوقية جاهزة، وأن ما يبدو في النهاية قرارات نهائية، ليس مجرد ترجمة بسيطة لرغبات “سيادية” بقدر ما هي، في حالات كثيرة، نتاج معقد لمخاضات من التفاعل والترافع والتلاقح والتراكم والتسويات، في مستويات متعددة ومختلفة .

ذلك أن التقدم لا تصنعه المواقف الحدِّية والقطعية، فما يبدو في الأحكام السهلة والسريعة مجرد “مناورات الأمير”، بلغة علماء السياسة، قد يتحول بقوة منطق السياق والأحداث وديناميكيتها الخاصة إلى فعل في التاريخ .

و”كذلك كان”!

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

“كذلك كان “ أو بحثا عن “verbatim” المغربي “كذلك كان “ أو بحثا عن “verbatim” المغربي



GMT 09:40 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

فعول، فاعلاتن، مستفعلن.. و»تفعيل» !

GMT 06:51 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

من يسار ويمين إلى قوميين وشعبويين

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 06:13 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

خطة حقوق الإنسان: السياق ضد النص

GMT 07:07 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

المهنة: مكتب دراسات

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya