من سيصدق المسيرات

من سيصدق المسيرات؟

المغرب اليوم -

من سيصدق المسيرات

بقلم : حسن طارق

في أقل من عشرين ساعة، نجح جزء محدود من بنية التعبئة الرسمية، المعتمد على آليات إدارية، مدنية، حزبية، موضوعة رهن إشارة السلطات المحلية، في الاستجابة لدعوات للاحتجاج على حكومة بنكيران، تقاسمها في الفايسبوك نشطاء منخرطون بتفاوت في دوائر إعلامية وحزبية وجمعوية، أعادت قبل أسابيع تشغيل مقولة الحاجة إلى بناء جبهة لمناهضة خطابات الكراهية والحقد .
لم ترتبط الدعوة بعنوان مركزي، وذلك دفاعا عن صورة مسيرة عفوية وشعبية، لكن الترتيبات اللوجستيكية (تأمين النقل/الشعارات الموحدة/الوساطة الجمعوية المستعملة)، كانت تذكر بشيء من الهندسة التنظيمية للجيل الأخير من المسيرات، التي سبق أن عرفها المغرب منذ 2010، والتي سبق للأستاذ الساسي أن سماها “مسيرات الدولة “.
مسيرة الأحد تحمل في تقديري ثلاث مفارقات كاشفة،
المفارقة الأولى تتعلق بالتوقيت، ذلك أنه في المنطق السياسي السليم، يتمفصل الزمن الانتخابي عن الزمن الاحتجاجي، ذلك أن زمن الانتخابات يقدم للمواطنين سلاحا أقوى وأنجع من مجرد اعتلاء الشارع منبرا للاحتجاج، وهو سلاح معاقبة المدبرين .
نتفهم الاحتجاج في بدايات الولاية أو في وسطها، ذلك أن منطق الفاعل الاجتماعي ينظر إلى الشارع كإمكانية للضغط على المؤسسات ولتعديل موازين القوى، ولخلخلة منطق الشرعية الانتخابية المبني على الأغلبية والمعارضة، ولتذكير المنتخبين أن التفويض الشعبي لا يعني دائما شيكا على بياض.
الاحتجاج في لحظة الانتخابات ليس، في المطلق، خيارا موضوعيا وعقلانيا للفاعل الاجتماعي.
وهذا وحده يعنى أن الرهان كان سياسيا بامتياز، وبعيد كل البعد عن تقاليد دينامية الاحتجاج الاجتماعي.
المفارقة الثانية تتعلق بطبيعة الخطاب المرافق للمسيرة، هذا الخطاب الذي تعتريه أزمة خيال حادة، ذلك أنه ابتعد- بسبب غامض- عن سجل السياسات وعن الهوية الاجتماعية للاحتجاج، ليقدم بكسل فكري مثير على محاولة استيراد جزء من مقولات و”سرديات” الحراك المصري، من خلال الحديث عن خطر”أخونة الدولة”، وعن “أخونة المجتمع”، وعن شعارات العلمانية والفصل بين الدين والسياسة .
هذه الشعارات التي حولها النموذج المصري، عبر آلية إعلامية جهنمية، إلى مدخل لتقسيم المجتمع إلى خندقين متحاربين هوياتيا.
الواقع أن هذه المقولات لا تبدو جميعها مطابقة للسياق الفكري والثقافي والسياسي والمؤسساتي لبلادنا، من حيث الصيغة المتوافق عليها لتدبير المشترك الديني، ولدور الملكية في هذا السياق، عبر مؤسسة إمارة المؤمنين، ولا من حيث طبيعة هندسة السلط داخل نظامنا الدستوري، والتي تحيط الصلاحيات الحكومية المحدودة أصلا، بعديد من الثوابت المرجعية، وآليات الضبط المؤسساتي والكوابح الهيكلية .
الوجه الآخر لهذه المفارقة يتجلى في مدى نجاعة التقدير التكتيكي الذي يعتمد بناء حشد شعبي وسياسي على أساس شعارات أيديولوجية !.
طبعا دون الإشارة إلى الوجه الأكثر إثارة في هذه المفارقة الخطابية، إنها التناقض الخرافي بين طبيعة جمهور المسيرة وبين الشعارات التي طلب منه حملها المتمحورة حول الحداثة والعلمانية !
والتناقض بين شعارات الحداثة والأساليب العتيقة في التعبئة المعتمدة على أعوان السلطة وأعيان السياسة وزبناء المجتمع “المدني” الملحق بالإدارة الترابية عبر آلية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية .
وهنا لابد من القول إن قضايا الحداثة السياسية والفكرية والدولة المدنية، تظل مطروحة على جدول أعمال النخب التحديثية والليبرالية والتقدمية، لكن المؤكد أن جعلها مجرد عناوين فارغة لتحركات بهلوانية، يسيء إليها بالتأكيد في الجوهر والعمق، ويعسر المهمة التاريخية للحاملين التاريخيين الحقيقيين لمشروعها .
المفارقة الثالثة تتجلى في تبادل معكوس للأدوار الطبيعية؛ حيث جزء من الدولة يراهن على الشارع، مقابل جزء من المجتمع السياسي يراهن على المؤسسات.
لقد قدم العدالة والتنمية عرضه السياسي لما بعد 2011، بخصوص التجاوب مع مطالب وشعارات الشارع (20 فبراير)، ونقلها إلى حلبة المؤسسات، وهو بذلك يقترح الانتقال من الاحتجاج إلى السياسة، في مقابل الرغبة المعاكسة لجزء من الدولة للانتقال- المغامر- من السياسة إلى الاحتجاج، وتقديم الشارع كمحاولة جواب عن اختناق استراتيجية الترويض المؤسساتي لحزب لا يشكل خطرا من حيث مواقفه السياسية المعتدلة، ولا من حيث سياساته الليبرالية، لكنه يشكل إزعاجا على مستوى مؤشرات “التمثيل السياسي”، بالنظر إلى قابليته لتكسير سقف القواعد غير المكتوبة للسياستين الانتخابية والحزبية للدولة.
الواقع أن هذه المفارقة تبدو كذلك غير منسجمة مع المنطق السليم، حيث إن فرص وخيارات استراتيجية اللجوء إلى الشارع، تضيقُ كلما كنا أمام مؤسسات قادرة على استقبال الطلب الاجتماعي ومعالجته، وهو ما يرتبط بمعايير قوة هذه المؤسسات من حيث التمثيلية والنجاعة والمصداقية.
لقد تابعنا كيف تحرك الذكاء الاستراتيجي للدولة في مواجهة هبّة الشارع عام 2011، لتقوية حلبة المؤسسات، عبر إعادة هيكلة سمحت بإعطاء مساحات جديدة من الاستقلالية والفعالية لمؤسسات مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومجلس المنافسة، والهيئة المركزية لمكافحة الرشوة، قبل أن يُكرس هذا الجواب المؤسساتي بشكل أشمل يهم مُختلف السلط الأساسية في دستور يوليوز 2011.
اليوم، في العمق، وقريبا من الاستعمالات السياسوية لمعادلة الشارع في مواجهة الحكومة، فإن تأجيج الشارع، خارج المسار الطبيعي الذي تحدده أجندات الحركات الاجتماعية والمطلبية، من شأنه أن يتجاوز في آثاره المُفترضة حدود الإحراج السياسي لجزء من مكونات الفريق الحكومي، وأن يضعف على العموم مناعة المؤسسات، وأن يزيد من هشاشة منظومة الوساطة الاجتماعية والسياسية والمدنية.
فكيف يمكن في الأخير قراءة المعنى السياسي لمسيرة لقيطة تركت في النهاية لسخرية شباب الوسائط الاجتماعية، ولدهاء العدالة والتنمية في لعبة تأويل نتائجها واستعادة تملك صورها و”حقيقتها”، كتأكيد عياني على خطاطته التواصلية المبنية على فكرة “التحكم” بمسمياته البلاغية الأكثر قدرة على الاستعارة: التماسيح والعفاريت .
يمكن ذلك عبر إعادة بناء سياقها، ومن خلال البحث عن علاقتها برهانات الفاعلين السياسيين داخل الأجندة الانتخابية.
وهذا ما يسمح بتقديم فرضية أولية، حول أن ما وقع الأحد الماضي هو مجرد بحث عن تغطية شعبية لترتيب سياسي مرتبط بتدبير الاستحقاق القادم، انطلقت مؤشراته ومتتالياته في شهر ماي 2016.
الخيط الناظم لهذه السلسلة من القراءات، والرموز، والإجراءات، والخطابات، والقرارات، كان يبدو قابلا للتفسير كمحاولة للعزل السياسي للعدالة والتنمية عن حاضنته الدعوية، ودوائر انفتاحه المحتمل، وتحالفاته الحزبية، ومن جهة أخرى لخلق حالة من الإيحاء بوجود مناخ استعداء مؤسساتي له (بلاغات الداخلية وسلوكها قبل الانتخابات وقراراتها).
لذلك، ربما كانت رغبة المسيرة هي تحويل حالة الإيهام بالرفض المؤسسي والسياسي إلى حالة رفض شعبي ميداني، مما سينعكس لا محالة على حضوره الانتخابي.
الذي وقع هو أن المحاولة فشلت، هذا الفشل يعني بالمنطق السياسي نصف نجاح للعدالة والتنمية في إبطال أثر هذا الترتيب السياسي/السلطوي المعلن.
إن لعبة الشارع بأجندة سياسية، تحمل الكثير من المخاطر، أقصاها خلق مناخ للاحتراب الأهلي والتقاطب المجتمعي، وأقلها نزع المصداقية التامة عن بعض استراتيجيات التعبئة الوطنية، التي تأخذ شكل مسيرات شعبية.
بعد فضيحة الأحد الماضي.. من سيصدق المسيرات؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من سيصدق المسيرات من سيصدق المسيرات



GMT 09:40 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

فعول، فاعلاتن، مستفعلن.. و»تفعيل» !

GMT 06:51 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

من يسار ويمين إلى قوميين وشعبويين

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 06:13 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

خطة حقوق الإنسان: السياق ضد النص

GMT 07:07 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

المهنة: مكتب دراسات

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya