لماذا صوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية

لماذا صوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؟

المغرب اليوم -

لماذا صوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية

حسن طارق

في الجلسة العامة لمجلس النواب، المُخصصة للتشريع، المنعقدة يوم الثلاثاء 27 أكتوبر الماضي، اخترتُ -إلى جانب النائب رشيد حموني، والنائبة نعيمة بنيحيى- أن أصوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. رسالة تصويتي المُخالف للإجماع، هي إعمالٌ لبند الضمير. لقد كنت منذ البداية ضد استقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل، دافعت عن هذا داخل لجنة العدل والتشريع، وفي عدد من اللقاءات والندوات والكتابات. ولم يكن من المعقول أن أنضم إلى الموافقين على هذا القانون التنظيمي.
لقد أثار هذا القانون الكثير من الجدل في المضمون كما في الشّكل، فإعادة بناء التداول العمومي حوله، توضح كيف أنه كثيراً ما دافع أنصار هذه الاستقلالية عن حجة احترام المشرع لتوصيات الحوار الوطني حول إصلاح العدالة، فيما ذهب بعضهم أبعد من ذلك عندما جعلوا من «ثناء» الملك على عمل هذه اللجنة التي دبرت هذا الحوار، ثم مرور المشروع أمام أنظاره داخل المجلس الوزاري، دليلا حاسما على ضرورة غلق ملف النقاش حول المقتضيات الخلافية لهذا القانون.
لقد تابعنا، هنا، كيف لا يزال، داخل الفضاء العام، مع الأسف، مكانٌ «لحجة السلطة»، عوض الاحتكام لحجج العقل والمصلحة.
فالمؤكد أن رئاسة الملك للمجلس الوزاري لا تحصن في المطلق مشاريع القوانين التي تمر داخل هذا المجلس؛ إذ تبقى الكلمة النهائية رفضا أو موافقة أو تعديلا للبرلمان. كما أنه من باب التعسف الاختباء وراء بلاغ للديوان الملكي يثمن أشغال استشارة عمومية، لتحصين مخرجات هذه الاستشارة من أدنى مناقشة!
لأنه ببساطة توسيع مساحات الحوار والاستشارة والنقاش العمومي، وهذا لا يعني بالضرورة نفياً لوظيفة البرلمان في التشريع وصناعة القوانين.
كما وقفنا، بمناسبة مرور هذا القانون التنظيمي أمام البرلمان، على حُضور هاجس التشريع الفئوي لدى بعض التمثيليات المهنية داخل جسم العدالة، حيث تُصبح وظيفة البرلمان في خطابات هذه المنظمات مجرد تسويغ وترسيم مصالح الفئات الأكثر دفاعاً عن أنفسها، وليس التشريع باسم إرادة الأمة انطلاقاً من استحضار المصلحة العامة.
الواقع أن فكرة هذه الاستقلالية تعود أساساً إلى توصيات الحوار الوطني حول إصلاح العدالة، فالدستور ومع كل الخطوات المتقدمة التي نص عليها في إطار تدعيم السلطة القضائية المستقلة، لم يحسم في الجهة التي يتبع إليها قضاة النيابة العامة، إذ سواء في الفصل 110 منه، عندما اكتفى بالحديث عن ضرورة التزامهم بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، أو في الفصل 116 عندما اعتبر أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، يراعي في القضايا التي تهمهم تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها، فإن الدستور الذي ظل يعتبر النيابة العامة تابعةً لسُلطةٍ ما، لم يوضح تماماً ما المقصود بهذه السلطة، والتي جاءت في النص الفرنسي بصيغة (L autorité hiérarchique ) وليس (Le Pouvoir).
أبعد من ذلك عندما نعود إلى الحوار العمومي الذي عرفه المغرب منذ انطلاق ورش إصلاح القضاء، ووصولاً إلى المذكرات المرفوعة إلى لجنة المنوني، فبقدر ما نجد اتجاهاً غالباً لإخراج وزارة العدل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية (من اللافت هنا أن نذكر بموقف الاتحاد الاشتراكي الذي طالب بتضمين هذا المجلس أعضاء يعينهم وزير العدل لمتابعة السياسة القضائية للحكومة)، لا نجد نفس التوجه فيما يتعلق باستقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل، إذ يمكن نظرياً تصور إمكانيات قانونية تسمح للوزارة التأثير في المادة التأديبية المتعلقة بقضاة النيابة العامة رغم عدم توفر الوزير على مقعد بالمجلس.

لنلاحظ أن كل اختصاصات وزير العدل في تتبع السياسة الجنائية وقع تفكيكها وإخراجها من دائرة مسؤولياته. أكثر من ذلك، فهو -طبقاً للدستور-لا يملك العضوية داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
والواقع أن فكرة «إخراج» وزارة العدل من المجلس الأعلى، نفسها تحتاج إلى نقاش، إذ كيف يستقيم الوضع، من جهة مع تنصيص الدستور على صلاحية الحكومة في إقرار السياسات العمومية والسياسات القطاعية (الفصل92)، وضمنها نتصور طبعاً السياسة الجنائية، أو سياسات الدعوى العمومية، وتنصيصه على مسؤولية الوزراء عن تنفيذ السياسة الحكومية كلٌ في قطاعه (الفصل 93)، ومن جهة أخرى مع تحميل القانون التنظيمي المذكور للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مسؤولية تنفيذ السياسية الجنائية، التي يظل الوزير هو من يقوم بإعدادها وفقاً للمادة 51 من المسطرة الجنائية!
نفكر في هذا الموضوع ونحن نستحضر النقاشات حوله في كل أنحاء العالم، حيث تضل-غالباً- النيابة العامة امتداداً للسلطة التنفيذية والمسؤولية السياسية داخل جسم العدالة.

إن مفهوم «دولة القضاة» الذي عاد للتداول بقوة بمناسبة مناقشة هذا القانون، قد وُجد في سياق تاريخي وسياسي ودستوري مغاير، لا علاقة لنا به في المغرب، لكن المقصود هنا بالمفهوم هو مجرد استعارة تعبر عن التّخوف من إخراج جزء مهم من صلاحيات الحكومة في صياغة السياسة الجنائية، من دائرة المسؤولية السياسية للحكومة، وتوسيع دائرة اللامسؤولية، والابتعاد عن منطق وروح دستور 2011، المتمثل في تعزيز فكرة المسؤولية.
علينا أن نكون واضحين بخصوص أن مشكلة القضاء في بلادنا لم تكن يوماً كامنة في تبعية النيابة العامة لوزير العدل. لم يكن بالقطع وزراء العدل هم من فَبرك المحاكمات الصُورية في زمن الرصاص، ولم يكن وزراء العدل هم من يتحدث عن الخط الآخر من هواتف التعليمات التي طالما تحدثت عنها بلاغات الحقوقيين وتقارير الإنصاف والمُصالحة، ولم يكن وزراء العدل هم من يأمر باقتحام المنازل لضبط الخصوم السياسيين للدولة في وضعيات الفساد و»الخيانات الزوجية» الجاهزة.

هل حان الوقت في بلادنا، لتحصين قُضاة النيابة العامة من الرقابة الرئاسية والسياسية للحكومة، وهم الذين يتوفرون على صلاحيات هائلة في تماسٍ مع حريات المواطنين وحياتهم اليومية؟
ألن يكون هذا التحصين مُجرد خُطوة لمزيدٍ من إضعافهم أمام مراكز النفوذ؟
أسئلةٌ لا يمكن القفز عليها بسهولة في مناقشة قانون تنظيمي مُهيكل لمُستقبل القضاء ولهندسة العدالة، برهانات خطيرة على ممارسة المواطنين لحرياتهم وحقوقهم.
طبعاً هناك أوجه سياسية للنقاش، لقد تم التعبير في أكثر من مناسبة على التخوف من أن يكون الدفاع عن أطروحة استقلالية النيابة العامة، مدفوعاً بخلفيات سياسية تجعل البعض يفكر في تقليص الصلاحيات الدستورية للحكومة، فقط لأننا اليوم أمام حكومة يقودها البيجيدي!
طبعا هذا الأمر لا يعفي حكومة بنكيران من مسؤوليتها في التدبير الكارثي لهذا الملف، مع هذا القانون التنظيمي، وإضافة إلى القانون التنظيمي للتعيين في المناصب العليا، تكون هذه الحكومة قد قادت أكبر عملية انقلاب ضد القراءة الديمقراطية للدستور، مبتعدة به عن فكرته الرئيسية المتمثلة في الانتقال من لحظة اللامسؤولية المنظمة، إلى تعزيز منطق المسؤولية السياسية والبرلمانية.

المواطنون ومُمثلوهم داخل البرلمان وفي الأحزاب والجمعيات هم من سيُحاسبون غداً، عندما تقع اختلالات في عمل النيابة العامة؟

لنتأمل الحالة السياسية التي يعرفها المغرب منذ 2011، والمتميزة بتصاعد ما يعرف بديمقراطية الرأي، الديمقراطية غير المؤسساتية، كتوصيف للشحنة التعبوية التي يخلقها تقاطع مواقف مواطنين/أفراد عبر وسائط الاتصال والصحافة، وإذا علمنا أن المساءلة تكاد تكون عقيدة هذه «الديمقراطية الجديدة»، كما هو الحال في قضيتي «گالفان» و»ملعب الرباط»، فإنه من الواضح أن إخراج النيابة العامة من دائرة المسؤولية السياسية للحكومة ومن خطاطة ديمقراطية المؤسسات، لن يُعفيها في المطلق من مُتابعة ورقابة «ديمقراطية الرأي»، وهو ما يجعل من هذا الأمر مجرد مغامرة غير محسوبة لتحميل المؤسسة الملكية، وزر كل الانحرافات الممكنة للنيابة العامة، وهو ما يعني ببساطة جعل الملك في مواجهة مباشرة مع جمهور المتقاضين من ضحايا اختلالات جهاز القضاء الواقف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا صوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية لماذا صوت ضد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya