بقلم : رشيد مشقاقة
في أول سنة قضائية سيفتتحها الملك الراحل الحسن الثاني بعد وفاة والده الملك محمد الخامس طيب الله ثراهما، انزعج الرئيس الأول لمحكمة النقض مما جاء في البروتوكول الذي اقتضى أن يستقبل المسؤولان القضائيان الملك بباب المرفق القضائي فيضطر قضاة المحكمة للوقوف عند الدخول إلى القاعة الكبرى، فأومأ لمن أخبر الملك بما يلي:
ـ “إنك القاضي الأول، والأحكام تصدر باسمك، والقضاة لا يقفون لأحد”!!
فهم الملك المعنى جيدا، وأمر أن يستقبله القضاة جميعهم. ومن يومها وفي عهد الملك محمد السادس أيضا ظل هذا التقليد الجليل ثابتا لا يتزحزح، فالملوك الذين يستشهدون بقول النبي الكريم: “سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله” ومنهم القاضي العدل، لا يسمحون أبدا أن ينزلوا بالقضاء إلى الدرك الأسفل!!
لا تخرج هذه الواقعة عن تلك التي كان بطلها الملك فاروق عندما زار الأزهر الشريف، فمر بجوار علمائه فلم يقف له أحد فاستشاط غضبا، ولم يعد إليه صوابه إلا بعد أن أخبره شيخ الأزهر أنَّ هؤلاء القضاة العلماء لا يقفون إلا لله عز وجل!!
عندما أستحضر هذه النبذة المشرقة من تاريخنا القضائي الحافل، وأجد الملوك خلفا عن سلف يحترمون القضاة ويسترشدون بهم ويسمعون منهم فيصدقونهم القول، ولا أجد القضاة يحترمون بعضهم البعض أُبْدِي أسفي.
مازلت أذكر ذلك المسؤول القضائي الذي أوقف الجلسات الصباحية، وجر القضاة كالقطيع إلى دار صديقه المريض لزيارته، وفوجئ الرجل الذي فتح باب داره وهو يرتدي ثياب النوم ويمسح عينيه بالمحكمة كلها أمامه، فاعتقد أنهم أتوا للقبض عليه!
ولم تخرج هذه المسخرة عن أخريات شبيهة لها. عندما يُسمع للمشتكي بحضور القاضي، عندما يقف القضاة مثل تلاميذ القسم، عندما يبلغ الاستئساد والاستقواء درجة يتحول فيها القضاة إلى فاعلين معنويين، وعجينا لزجا قابلا لأي تشكيل، في مقابل أن يرضى عنهم، وهو ما راكم لدينا فئة لا يهمها سوى تحصيل مصلحتها مهما كان الثمن، وقد تملكتني نوبة من الضحك المؤلم عندما مر أمامي شبح قاضي يجري ملء رجليه ويلقي سجادته إلى جوار وزير يؤدي الصلاة في الشارع بعد أن امتلأ المسجد عن آخره، فقد ترك هذا القاضي مساجد الدنيا كلها وآثر أن يراه الوزير إلى جانبه مصليا قانتاً ليذكره بالخير لاحقا!
الملك الراحل الحسن الثاني الذي سمع جيدا لمن يقول له إن القضاة لا يقفون لأحد، هو نفسه الذي بلغ إلى علمه ـ لما كان وليا للعهد ـ أن رئيس محكمة النقض رفض اقتراحه رئيسا للوزراء. فلما سأله في الموضوع أجابه بثبات ورباطة جأش:
ـ “أنت ملك المستقبل، وملعب الوزارة والوزراء لا يليق سوى بنا وبأمثالنا”!!
لم يغضب الملك، ولم يؤذ القاضي، فهو يعي جيدا أن القاضي مستشار أمين لا ينطق عن هوى أو طمع!!
يلومنا البعض أنَّنا نستحضر التاريخ في ما نقول ونكتب عن القضاة، أننا نميط اللثام عن بعض أنواع السلوك التي تجر قضاءنا إلى الدرك الأسفل، أنه لا ينبغي أن نقول: “لا تكذبوا على الملك، نسي هؤلاء أن القضاة على مر التاريخ كانوا المستشار الوحيد والأوحد للعلماء والملوك، ولم يكن بينهم وبينه حجاب ولا يحزنون”.
الملك الحسن الثاني لم يترك الفرصة تمر دون أن يلقن من تجاوز حدود صلاحياته كقاضي مسؤول في علاقته بالقضاة. فها هو رئيس محكمة النقض يوحي لقاض برأي ما في قضية معينة، ولا يأبه القاضي بما أُوحِي إليه لمخالفته للقانون والعدل، فبادر المسؤول إلى استبداله من باب التعسف، فلما أخبر القاضي الملك بذلك، لم يتوان في إعفائه وتكليفه بمهمة وزارية ولسان حاله يقول: “هذا منصب فيه مجال خصب لإعطاء التعليمات خلافا لمنصب القضاء الجليل بقدره القوي وباستقلال قضائه”!!
ولم يكن الرئيس الأول لمحكمة النقض سوى ذلك الذي قال للملك الحسن الثاني يوم رفض اقتراحه وزيرا أول: “إن السياسة مجال للتجاذب، وأنا وأمثالي من يصلحون لها”!!
عندما أرى الملك محمد السادس يقتدي بسلوك خَلَفِه في علاقته بقضاة يصدرون آلاف الأحكام باسمه ويقدرهم حق قدرهم، ويحترمهم كل الاحترام، وأرى منْ هُم من جسم القضاة أو أجانب عنه يخرجون عن هذا التقليد المثالي الراسخ، ويضعون السدود والقيود بينهم وبين جلالته ويؤثرون مصالحهم الخاصة بالتملق والتزلف وينسون أنه في يوم من الأيام سَيُعْفَون بنفس الطريقة والأسلوب اللذين بادر بهما الملك الحسن الثاني طيب الله تراه قائلا للمتعسف:
ـ “القضاة لا يقفون لأحد، القضاة مستقلون ولا يتلقون التعليمات”.
هم ينسون قول الها عز وجل: “قل إن موعدكم الصبح.. أليس الصبح بقريب”. صدق الله العظيم.