بقلم : جمال بودومة
لكل أجل كتاب. في 20 فبراير 2011 مات المغرب القديم، البلد الذي كان فيه لمقدم والقايد والمخزني والبوليسي ينكلون بالمواطنين البسطاء دون أن يحدث أي شيء. في الوقت الذي كان فيه رجال السلطة يمارسون هواية التماطل في تسليم شهادة السكنى وشهادة الميلاد وشهادة الضعف، في مختلف إدارات المملكة، كان مئات الآلاف من المتظاهرين يسلمون “شهادة الوفاة” لنظام بأكمله. الشارع أخذ الكلمة ولا أحد يمكن أن يسكته. في ذلك الأحد المجيد، بدّل الخوف معسكره: بعد أن كان الشارع يخاف من المخزن، أصبح المخزن مرعوبا من الشارع. صحيح أن الإصلاح الدستوري كبح جموح المتظاهرين، ومصير الثورات العربية أضعف زخم الاحتجاج، لكن المغرب القديم مات إلى الأبد، ومخطئ من يعتقد أن الرجوع إلى الوراء ممكن. وإذا لم تفهم الدولة مغزى التظاهرات التي خرجت بعد مقتل محسن فكري، في الحسيمة وبقية المدن، فإن هناك مشكلة، والمشكلة أن بعض تصريحات محمد حصاد تدل على أن وزير المخزن في حكومة الإسلاميين، “ما فهم حتى وزّة”، ويعتقد أن المغرب القديم مازال في كامل العنفوان!
محسن فكري طحنته “الحكرة”، قبل أن تطحنه حاوية الأزبال. ولأننا في عصر السمارتفون وفيسبوك ويوتوب، جابت صوره المؤلمة أطراف المعمور، وفي أربع وعشرين ساعة خرج الناس يحتجون ويعبرون عن امتعاضهم ورفضهم لاحتقار الشعب من طرف السلطة، بكل بساطة. هذه التظاهرات لم تدع إليها أحزاب ولا نقابات ولا جمعيات مرخصة أو محظورة، بل خرجت تلقائيا بعد دعوات سريعة على الإنترنيت، بمعنى أن الجماهير التي تحتج اليوم في الشارع لا يؤطرها أحد، بل عبارة عن أمواج بشرية هادرة لا أحد يستطيع التحكم فيها، وذلك أخطر ما في القصة. الاحتجاجات هذه المرة تتجاوز “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” و”العدل والإحسان” و”النهج” وعبدالحميد أمين وخديجة الرياضي وعبدالله الحريف… وكل الأطراف التي دأبت وزارة الداخلية أن تعلق الغضب الشعبي على مشجبها. وعندما يقول حصاد للمتظاهرين: “إنكم معروفون”، إنما يتحدى الأمواج المتلاطمة، وينفخ في الجمر الملتهب تحت الرماد في الريف. مجنون من يتحدى البحر أو النار أو البركان أو تسونامي!
في غشت 2013، تظاهر الآلاف في الشوارع احتجاجا على قرار ملكي، في سابقة من نوعها، عندما أفرج عن مغتصب الأطفال دانيال گالفان. اليوم تحتج الجماهير بشدة على سلوك أفراد السلطة، الذين لم يترددوا في “طحن” مواطن يدافع عن رزقه. في المرة الأولى حسم الملك الموقف وزار عائلات الضحايا، بعد أن لجأت وزارة الداخلية إلى العصا لقمع المتظاهرين. وهذه المرة أيضا، أرسل الملك موفدين إلى بيت الشهيد كي يمتص الغضب الشعبي. لكن إلى متى يظل القصر يصلح ما أفسده رجال السلطة؟ ما كل مرة تسلم الجرة!
في كل الأزمات الحادة، منذ فبراير 2011، أصبح القصر يتحاور مباشرة مع الجماهير دون وساطة من أحد. سواء في خطاب 9 مارس أو حادثة دانيال گالفان أو محسن فكري، رأينا الملك في قلب المعمعة، لدرجة يتساءل معها الواحد: لمَ تصلح الحكومة والبرلمان والأحزاب والنقابات واليزمي؟
بعيدا عن الشعارات التي تمجّد إنصات الملك إلى شعبه، يشكل الاحتكاك المباشر بين القصر والجماهير خطرا على المؤسسات الديمقراطية، وعلى مستقبل البلاد واستقرارها. الأجيال التي عرفت التلفزيون القديم، تتذكر أن مده بالكهرباء كان يتم عبر جهاز يشبه بطارية السيارة، اسمه “الريگيلاتور”، وحين يقدم الأطفال على غرس خيط التلفزيون مباشرة في “البريز”، يتعرضون للتقريع لأنهم يهددون التلفزيون بـ”الحرق”… كان جوف التلفزيون وقتها مليئا بالأسلاك والمصابيح، وأي عطب كهربائي يؤدي إلى تلف ما بداخله، لذلك كان المغاربة يستعملون “الريگيلاتور” كي يتفادوا تعطل الجهاز في حال انقطاع مفاجئ للكهرباء، وهي حوادث رائجة في تلك السنوات المظلمة. التلفزيون هو القصر والشعب هو الكهرباء و”الريگيلاتور” هو الحكومة والأحزاب والنقابات. واضح أن القصر يشتغل اليوم من دون “ريگيلاتور”، والخشية كل الخشية أن “يحترق” الجهاز برمته عند أول “كور سيركوي”!