بقايا صور

بقايا صور

المغرب اليوم -

بقايا صور

بقلم - جمال بودومة

كنا في مقهى “المثلث الأحمر” نهاية التسعينيات، مع شاعرين معروفين وقريب لأحدهما، قبل أن تُصاب الثقافة بِالحوَل ويصبح مقهى الأدباء محلا لصنع النظارات. كانت القصيدة وقتها تصنع النجومية، سنوات  قبل ظهور “فيسبوك” و”يوتيوب” و”أنستگرام” و”إكشوان إنوان” و”ساري كول” و”نيبا”… وغيرهم من مشاهير العصر الحديث. كان محمد زفزاف ومحمد شكري و”اتحاد كتاب المغرب” على قيد الحياة، وكانت الكتابة مهنة جديرة بالاحترام، يكفي أن تنشر بضع نصوص في الملحق الثقافي لجريدة “الاتحاد الاشتراكي” أو “العلم” كي تصبح شخصية مرموقة، يعرفك الأساتذة والمعلمون والطلبة و”المناضلون”، ويحترمك نادل المقهى.

الشخص الذي رافق قريبه، كان يرتدي بذلة مخططة وله “موستاش” عريض، فهمنا أنه جاء إلى الرباط من بلدة بعيدة، وبدا سعيدا لمجالسة أشخاص يكتبون في الجرائد ويؤلفون الكتب، ويمرون أحيانا في التلفزيون. طلب “پاناشي” ولم يتوقف عن طرح الأسئلة، كأننا في برنامج تلفزيوني، معظمها ساذج وثقيل الظل، لكننا بذلنا جهدا كي نتحمله. وكلما عرجنا على مواضيع خفيفة لتزجية الوقت، يصر أن يعيدنا إلى الشعر الحر والعَروض و”السّياب” و”نازك الملائكة”…. كأننا في فصل دراسي. صبرنا عليه احتراما لقريبه الذي بدا محرجا، وكان يقمعه بين الفينة والأخرى، دون أن ينجح في كبح جماحه. عندما هممنا بالانصراف، اقترح شارب الـ”پاناشي” أن نأخذ صورة جماعية، وحين سألناه أين آلة التصوير؟ رد بثقة في النفس: “ليس عندي مصوِّرة، لكن يمكننا الذهاب إلى الأستوديو الموجود قبالة البرلمان”… كتمنا الضحكة وأصبنا بالإحراج، لأن عادة الذهاب إلى الأستوديو لالتقاط صورة جماعية كانت قد انقرضت من زمان، لكنه أصر على أن نخلد اللقاء أمام زهور بلاستيكية. اضطر  صديقنا، في النهاية، إلى جر قريبه من ياقة بذلته المخططة نحو أول تاكسي، كي يضع حدا للموقف السخيف!

كيف تحول تقليد راسخ في ثقافتنا الشعبية إلى ممارسة تدعو إلى السخرية؟ المسؤول الأول عن هذا “الديكالاج” الثقافي هو التطور التكنولوجي. في تلك السنوات الخصبة، كنا في منعطف حاسم. أصبحت آلات التصوير  في متناول الجميع، الكل يملك واحدة أو اثنين دون الحديث عن الآلات التي ترمى بعد الاستعمال، كما ظهرت الهواتف المحمولة، التي ستصبح مزودة بكاميرا مدمجة فيما بعد. الطفرة التكنولوجية قلبت حياتا رأسا على عقب وأحالت كثيراً من العادات الاجتماعية والثقافية على التقاعد.

من منا لم يسبق له أن ذهب إلى الأستوديو لالتقاط صورة جماعية؟ إما وحده أو مع إخوته أو أبويه أو أقربائه أو زملائه أو أصحابه، خصوصا أيام الأعياد؟

في تلك العهود الغابرة، كانت الخرجات العائلية تنتهي دائما بصورة في الأستوديو على سبيل الذكرى. في كل حي محل لتجميد الوقت. مكان مهيب، يخيم عليه الصمت، مع آلات تصوير مثبتة على “التري پيي”، وستائر ومصابيح تتدلى من كل جهة، للتحكم في الظل والضوء. على الحائط صورة كبيرة، لأشجار أو حيوانات أو مباني فاخرة. كي نأخذ الصورة، نعطي ظهورنا للجدار المزركش وأمامنا مزهرية من الورود البلاستيكية. الصغار يقدمون تلقائيا على محاولة قطف الزهور، مما يجعل الفوتوغراف يعيد التقاط الصورة عدة مرات. بعض الأطفال، يستغلون المناسبة من أجل القيام بحركات بهلوانية أو حربية تدل على تأثرهم بـ”بروس لي” أو “جاكي شان”… مما يعقد مهمة المصور. ولا بد أن تضحك كي تطلع الصورة حلوة. قبل أن تغادر، يعطيك صاحب الأستوديو وصلا، تؤدي جزءا من المبلغ وتدفع البقية عندما تعود لسحب التذكار. بعد أسبوع أو أقل تكون الصورة جاهزة، بالأبيض والأسود أو بالألوان. العملية تستغرق عدة مراحل. يذهب الشريط إلى المختبر ويتم تحليله وتحميضه وتجفيفه، ولا أعرف ماذا أيضا… عندما ظهرت آلات التصوير الفوري، لم نستطع أن نصدق “المعجزة”. أصبح المصور يلتقط لك تذكارا يخرج فورا من الآلة الفوتوغرافية العجيبة. يمسك بالورقة ويحركها ذات اليمين وذات الشمال، كي تجف وتتبين ملامح الأشخاص قبل أن يسلمك إياها. صدق أو لا تصدق!

جرت الأمور بسرعة مذهلة فيما بعد، ظهر الهاتف المزود بكاميرا، وصار في منتهى الذكاء، وأصبح الناس كلهم مصورون. الجميع يلتقط ما شاء من اللقطات ويضعها على وسائل التواصل الاجتماعي متى وأين شاء، كي يراها العالم في الوقت نفسه. أصبحت الصور متحركة ويمكن بثها مباشرة على “فيسبوك” و”تويتر” و”أنستگرام”… انتقلتا من عصر إلى عصر، دون أن نستوعب عمق التحول وضخامة الطفرة، التي مازالت في بداياتها، مع استعداد العالم لاستقبال الجيل الجديد من الهواتف المحمولة، أو ما يعرف بالـ5G، التي ستعمق ارتباطنا بالعالم الافتراضي، وتجعل شبكة الأنترنيت تخترق الحجر والشجر، وتربط كل شيء بكل شيء.

التاريخ يمشي على قدميه وأحيانا يقفز أو يطير دون سابق إنذار. ساعة واحدة تعادل عشرات السنين في بعض الفترات. في صيف 1914، عندما أعلنت الدول الأوروبية  الحرب على بعضها البعض، وبعدما أدركت هول التغيير الذي يعيشه العالم، كتبت الشاعرة الروسية العظيمة آنّا أخماتوفا: “في ساعة واحدة/ تقدّم بِنَا العمر مائة عام/…”.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بقايا صور بقايا صور



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 19:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج الجدي

GMT 06:36 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

تمتع بمغامرة فريدة في أجمل مدن "مولدوفا"

GMT 11:44 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

المؤجلات… موت التشويق

GMT 22:25 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

المانجو فاكهة النشاط والتفاؤل

GMT 15:47 2018 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

أفكار مميزة لتجديد حديقة منزلك بدون تكاليف في الشتاء

GMT 18:25 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

لمسات بسيطة تضفي مزيدًا من الجمال على شرفات منزلك

GMT 05:02 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

شخص يضرم النار داخل مسجد أثناء صلاة العشاءفي شيشاوة

GMT 23:52 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

متصرفو المغرب يعتصمون أمام وزارة المال في الرباط

GMT 14:10 2017 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

جريمة قتل بشعة تهزّ حي التقدم في الرباط

GMT 21:47 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف عداء مغربي لأربعة أعوام بسبب المنشطات

GMT 18:28 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء يواجه الدفاع الجديدي في الرباط رسميًا

GMT 21:04 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

أولمبيك خريبكة يستعيد نغمة الانتصارات ويؤزم وضعية تطوان

GMT 20:54 2016 الإثنين ,14 آذار/ مارس

إنشاء 3 شواطئ صناعية في كورنيش مدينة الناظور
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya