بقلم - جمال بودومة
ذات لقاء في رياضه المراكشي الجميل، أسرّ لي الكاتب الكبير خَوَّان غويتيسولو، أن مغامرته مع الكتابة والحياة مكنته من استيعاب الجوانب الأكثر غموضا في الإنسان، وفهم السلوك البشري في أعمق تعقيداته، لكنه مازال يقف حائرا أمام شخصين: “من يطلّق امرأة كي يتزوج أخرى، ومن يخرج من ديانة كي يدخل في أخرى”… معظم المغاربة لا يتفقون مع الكاتب الراحل فيما يتعلق بالطلاق والزواج، ولا يشاطرونه الرأي حول كل شخص يتخلص من ديانته كي يعتنق الإسلام، لكنهم يتفقون معه تماماً عندما يتعلق الأمر بمسلم يرتد عن دينه كي يدخل في ملة أخرى، لذلك عجزت بلاد بكاملها عن “فهم” ما أقدم عليه الشاب محمد بنعبدالجليل، في دجنبر 1928، حين قرر اعتناق المسيحية جهارا في إحدى الكنائس الفرنسية، بتأثير من أستاذه لوي ماسينيون، المستشرق الشهير وأحد كبار مبشري الكنيسة الفرنسيسكانية في النصف الأول من القرن العشرين. في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، كان الناس يحاولون تدبر أمورهم مع الاستعمار، الذي بسط نفوذه على “الإيالة الشريفة”. لم يكن الاحتلال مجرد سطو على الأراضي، بل طعنة في كبرياء بلد يعيش على أمجاده الغابرة. بعدما ضيعوا الوطن، لم يبق للمغاربة إلا الدين، حصانة روحية ضد الاستعمار، وملاذا أخيرا للحفاظ عن الهوية، والتعويض النفسي عن خسارة الأرض، لذلك شكل خبر كان اعتناق محمد بنعبدالجليل للمسيحية صدمة حقيقية، وأحدث زلزالا في المجتمع المغربي، أيقظ الوعي الوطني في مواجهة المستعمر، الذي سلب منه البلاد ويريد أن يسرق أبناءه، ويغير قيمهم وثقافتهم وعقيدتهم. بل إن البعض يعتقد أن احتجاجات 1930، المرتبطة بـ”الظهير البربري”، كانت في الحقيقة بسبب تمسّح محمد بنعبدالجليل، وحملة التبشير التي كانت تدعمها سلطات الحماية خفية، خصوصا أن الشاب الفاسي كانت تربطه علاقة متميزة مع المقيم العام، المارشال ليوطي، الذي ساعده كي يحصل على منحة دراسية في باريس . «في سن 23، خلال دراساتي في السوربون، وإثر أبحاث دينية استغرقت ثلاث سنوات، قررت أن أطلب التعميد في الكنيسة الكاثوليكية، وأن أهب نفسي لخدمة المسيح… عُمّدت عام 1928، ودخلت إلى الكنيسة الفرنسيسكانية في 1929»، كما يقول الأب جون- محمد عبدالجليل في إحدى شهاداته النادرة حول مساره الاستثنائي.
عندما وصل الخبر “السعيد” إلى فاس، تبرأ منه والده، وأقام له جنازة رمزية مهيبة، ظلت محفورة في أذهان الأجيال اللاحقة. في الصفحة 61 من رواية “الماضي البسيط” لإدريس الشرايبي، يقول الوالد المتسلط لابنه المتمرد: “وأنت، أنت الذي كنا نتمنى أن تعلي من شأننا… ما هو حلمك؟ أن تغادر وتنسانا جميعا، في أقرب وقت وبصفة نهائية بمجرد ما تذهب، أن تحقد علينا، أن تحقد على كل ما هو مسلم وكل ما هو عربي، هل تعرف كيف انتهى بنعبدالجليل، أستاذك السابق في مدرسة جسوس؟ إنه في باريس، أصبح كاثوليكيا وراهبا… حاول أن تفعل أفضل منه، الله يعاونك، من يدري ربما أصبحت البابا نفسه!”
هكذا أصبح محمد بنعبدالجليل فزاعة يشهرها الآباء في وجه عقوق الأبناء، رغم أنه في الحقيقة رمز للتسامح والحب والوفاء. سليل العائلة الفاسية العريقة تحول إلى راهب، وتدرج في أسلاك الكنيسة إلى أن صار مقربا من البابا جان- بول السادس، الذي اقترح عليه أن يصبح مستشاره. ومثلما تمسك باسم “محمد”، الذي ظل يحمله جنبا إلى جنب مع “جون” أو “يوحنا”، لم يتخل بنعبدالجليل عن ثقافته الإسلامية وحسه الوطني. كان متضلعا في الفقه الإسلامي، وفي الأدب العربي، حافظا للقرآن الكريم، يتقن الإنجليزية والألمانية والإسبانية، بالإضافة إلى العربية والفرنسية، وظل يقدم محاضرات عن الإسلام والأدب العربي بالمعهد الكاثوليكي في باريس، ويؤلف الكتب والمقالات العلمية، إلى أن اضطره المرض إلى التخلي عن التدريس. لعب الأب جون- محمد بنعبدالجليل دورا مهما في الترويج للحركة الوطنية داخل الأوساط المسيحية. لم تنقطع صلاته برفاقه الوطنيين، الذين درسوا معه في فرنسا ضمن أول بعثة طلابية في العشرينيات، ومن بينهم الزعيم محمد بلحسن الوزاني والدكتور المهدي بنعبود وأخوه الحاج عمر بن عبدالجليل، الذي شغل منصب وزير الفلاحة، ثم وزير التربية الوطنية بعد الاستقلال، ولم يتوقف عن زيارة شقيقه رغم “سخط الوالدين”. عام 1961، نجح الحاج عمر في إقناع الأب جون- محمد بالعودة إلى المغرب، بعد خمسة وثلاثين سنة من الغياب. لكن حزب “الاستقلال”، الذي أحرجته الزيارة أمام قواعده المحافظة، كتب في صحافته إن عودة محمد بنعبدالجليل هي في الحقيقة عودتان: إلى بلده وإلى دينه الأصلي… وسرعان ما تناقلت الصحف الفرنسية الخبر، وفي مقدمتها “لوموند” و”لوفيغارو”. مناورة الاستقلاليين آلمت الأب جون-محمد، وجعلته يغادر المغرب محبطا ولا يعود إليه أبدا. الرجل الذي كان يتحدث بأكثر من لغة، نال منه سرطان اللسان، وأسلم الروح في 24 نونبر 1979 بمدينة “فيل جويف” في ضواحي باريس.