الجندي الصغير

الجندي الصغير

المغرب اليوم -

الجندي الصغير

بقلم : جمال بودومة

كنّا صغارا وكان السؤال سخيفا ويعود كلّ عام: ماذا تريد أنْ تكون عنْدما تكبر؟ طبيبٌ. مهندس. محامي. طيّار… أنا كنت أريد أن أكبر فقط. من باب الفضول. كنت أتشوق لرؤية العالم من قمّة أعلى، من قامة أطول. كيْ أفهم ما يجري، وكي أستطيع الوصول إلى الحلوى التي تخبّئها أمّي فوق الدولاب. طوال طفولتي، تمنيت لو أغمض عينيّ وأفتحهما وأجدني كبيرا يفهم كل شيْء. أتخيّلني رجلا طويلا بشارب ولحية وعضلات، ولا أبالي كثيرا بسؤال المدرّسين. ذات يوم، في حصة “الإنشاء”، كتب المعلم على السبورة: “حدّثنا عن المهنة التي تريد أن تمارسها عندما تكبر معلّلا اختيارك…”.

فكّرت طويلا في الموضوع وفي النهاية كتبْت أنني أريد أن أصبح جنديا… “جندي مثل أبي”. كان والدي عسكريا في الصحراء، يدافع عن رملها. “يذود عن حوزة البلاد”، كما كتبت يوْمها على “ورقة مزدوجة” زرقاء. كانت الحرب مع البوليساريو على أشدها، والأخبار تأتي مهرّبة ومتضاربة: لقد هجموا اليوم، قتلوا عشرة، جرحوا عشرين، أسروا نصف “الباطايون”… لكنّ مصطفى العلوي يتكتّم على الخسائر. الجنود العائدون من الجبهة نحيلون، كمصابين بمرض “البري بري”، يحملون علب السردين والأخبار المحزنة، ووجوها كالحة تنخرها عقدة الذنب، لأن رفاقهم ماتوا وهم مازالوا على قيد الحياة. أتذكر “لاجودان” الشريف الذي لم يعد. أتذكر أولاده ينتحبون وأمّهم تولول وسط نسوة يحاولن تهدئتها ويبكين. أتذكر كثيرا من الأطفال الذين فقدوا آباءهم في الصحراء، وبنى لهم سلطان الإمارات بيوتا أطلقوا عليها “ديور الشهداء”. كلما فكرت في الصحراء، أرى منزلا مكتظا بالبشر، ونسوة يبكين وشاحنات عسكرية، وأمّي تنهرنا كي نعود إلى البيت. كلّ يوم، تأتي الأخبار مهرّبة والكبار يترقّبون نشرة الأخبار ويشتمون الجزائر. ونحن نلعب الحرب في الشارع ونردد بصوت حماسي: “ماطيشة بلا ملحة، بومدين خاصو دبحة!”…

التلْفزيون يكذب. الكبار يقرؤون ما وراء الكلام. ينصتون للأخبار باهتمام ولا يثقون. يقول مصطفي العلوي: “السلام عليكم”، وتردّ جدتي: “وعليكم السلام ورحمة الله”، ونحن نضحك. فجأة يسرط المذيع ابتسامته الصفراء ويتخذ تلك السحنة المخيفة وهو يقرأ بلاغ الجيش: “وقد كبّدت قواتنا المسلحة الملكية الباسلة مرتزقة البوليساريو خسائر فادحة في الأرواح وفي العتاد”. الخسائر في أرواحنا أيضا، ولا هاتف في تلك السنوات القاسية، وأخبار دار البريهي أكثر “بسالة” من “قواتنا المسلحة”. أسمع جدتي وأمي تتهامسان، وأحدس أسرارا وأخاف ألاّ يعود أبي، مثل “لاجودان” الشريف أو نظل ننتظره إلى الأبد. أرى الدموع في عيني أمّي وأريد أن أصبح جنديا مثل والدي، كي “أنتقم من الجزائر”. ليس في الإنشاء فقط. بمناسبة احتفالات عيد العرش تنكرت في لباس جندي وسط فيلق من التلاميذ. لكنني لم أستطع ضبط إيقاع المشية العسكرية، أمام دهشة المعلم وسخرية التلاميذ: أبوه جندي ولا يعرف كيف يمشي “واحد اثنين”، يا للمهزلة!

ذات صباح، أخذونا إلى المستشفى في شاحنة “لاند روفر” رمادية. كان عمري ستّ سنوات ورأيت الوالد ممدّدا على سرير أبيض. كان نائما ومن أنفه يتدلى أنبوب طويل. رآنا وابتسم ورفع يده المتعبة. جرحته شظية تحت أذنه اليسرى، لكنّه لم يمت وعاد إلى البيت. منذ ذلك اليوم، فهمت معنى الخدمة في الجيش: بذلة كاكية و”برودكان” و”موزيط”، علب سردين وخوف متواصل وصحراء على حدود الموت. عندما أنهى والدي سنوات الخدمة في الجيش، تركت له الدولة تقاعدا مخْجلا. خرج بجرح غائر تحت أذنه وبراتب لا يكفيه لشراء الدواء. لم تقتله شظية البوليساريو وقتله جحود الدولة. كبرت ورأيت كيف ينتهي “الأبطال” الذين خدموا راية البلاد، فقراء معدمين ومرضى بلا دواء، وتخلّصت من أحلام الطفولة، حمدت الله أنّني لم أصبح جنديا كما تمنيت ذات إنشاء مدرسي قديم!

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجندي الصغير الجندي الصغير



GMT 16:20 2020 الخميس ,30 كانون الثاني / يناير

سعيد في المدرسة

GMT 11:52 2020 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

تيفيناغ ليس قرآنا!

GMT 14:26 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

«بيعة» و «شرية» !

GMT 05:27 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

«لا يُمْكن»!

GMT 03:32 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

!الوهم الأبیض

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"

GMT 13:01 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

رودريجو يكشف عن شعوره الأول لحظة مقابلة زين الدين زيدان

GMT 16:29 2019 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مغربي يقدم على قطع جهازه التناسلي لسبب غريب

GMT 09:59 2019 الإثنين ,26 آب / أغسطس

"رئيس الوصية"..على أبواب قصر قرطاج
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya