“لحيس الكاپة”

“لحيس الكاپة!”

المغرب اليوم -

“لحيس الكاپة”

بقلم - جمال بودومة

كان الشعراء القدامى يمدحون السلاطين ليحصلوا على النقود، يتهافتون على التقرب منهم بالكذب والبهتان ولحس الأحذية، ويصوغون احتيالاتهم في أبيات طويلة لا تخلو غالبا من سحر، مما جعل الناس يردّدون أن “أعذب الشعر أكذبه”. في تلك القرون العمودية، كان المتملقون يبذلون جهدا خطيرا في تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب وتدليك العواطف، ليستحقوا مكافآتهم. وقد نظّر المتنبي لعلاقة “البيع والشراء” التي تربط الشاعر بممدوحه في إحدى أشهر قصائده:

“جودُ الرجال من الأيدي وجودُهُمُ… من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ”.

يعني “أعطني وأمدحك”، أو بالعربية الفصحى: “هاك وارا ما فيها حزارة”…

أبو الطيب المتنبي قال كلاما جميلا في حق كافور الإخشيدي، حاكم مصر ذو البشرة السوداء في القرن العاشر الميلادي، ورجانا أن نصدّقه:

“وإن مديح الناس حق وباطل… ومدحك حق ليس فيه كِذابُ”

لكن عندما لم يمكّنه “أبو المسك” – كما سمّى كافور في أشعاره الأولى – ممّا أراد، شتمه كأي نذل بأبيات تقطر حقدا وحقارة:

“لا تشترِ العبد إلا والعصا معه… إن العبيد لَأنجاسٌ مناكيدُ”

“لا يقبض الموت نفسا من نفوسِهمُ… إلا وفي يدها من نتْنِها عودُ”!

ولو عاش المتنبي اليوم، لاستحقّ أن يجرجر أمام المحاكم بتهمة العنصرية. قبل كافور الإخشيدي، مدح الشاعر الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس”، سيف الدولة الحمداني وكثيرا من الحكام والميسورين، طمعا في المال والسلطة، وعندما لم يحصل على ما أراد، هجاهم جميعا، وظل يفضحهم ويشتم أمهاتهم إلى أن “قتلوا أمّه” في إحدى المرّات!

أيام كان الشعر لسان العرب، كان السلاطين يتسلون بالشعراء وأكاذيبهم، وإذا أعجبتهم القصيدة يقولون للخدم: “أعطوه ألف دينار”. في المغرب، حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، كان “الشعراء” يذهبون إلى الإذاعة والتلفزيون في الأعياد الوطنية كي يمدحوا ويمجّدوا “صاحب الصولة والصولجان”، ويجترّوا عبارات جاهزة من قبيل: “السؤدد” و”قرّ عينه” و”بزغ العلا”، مقابل حفنة من الدراهم… لحسن الحظ أن هؤلاء المتملقين اختفوا مع الحسن الثاني، مثلما اندثر عشرات المغنين الذين تجشؤوا علينا آلاف الأغاني التي سمّيت ظلما بـ”الوطنية”، ما عدا بعض الاستثناءات!

هل اختفى المدّاحون والمتملقون حقا؟ أبدا، لقد تغيرت أساليبهم فقط، وتأقلموا مع “العهد الجديد”. أليس ما كان يدبجه شعراء “عيد العرش” هو بالضبط ما يردده الصحافيون المأجورون والمحللون “المقتدرون”، ومن يدور في فلكهم من الطبالة والغياطة والعياشة… عقب كل خطاب ملكي؟ الفرق الوحيد أن موهبتهم أقل وفصاحتهم أضعف وكلماتهم أبشع و”جبهتهم” أعرض، تصلح لكسر اللوز… دون أن ننسى جلّ قادة الأحزاب والسياسيين الذين، حتى حين يكون النقد موجها إليهم كما في خطاب عيد العرش الأخير، لا يترددون في إخراج أدوات “النجارة” لـ”تثمين ما جاء في الخطاب الملكي السامي”… بدل التحلي بالشجاعة وتقديم استقالتهم، كما فعل إلياس العماري، في خطوة تستحق التنويه أيا كانت خلفياتها الحقيقية.

ما أشبه اليوم بالبارحة، مع فرق في البلاغة والشعر. أبيات مديح من أجل ألف دينار وافتتاحيات تملقية من أجل الإشهار أو حفنة نقود تحت الطاولة. قصائد عصماء، تقابلها “مقالات رأي” تقطر كذبا وتملّقا لأغراض لا تخفى على أحد. يمدحون كل من يملك سلطة أو نفوذ أو مال، ويهجون من يرفض تمكينهم من الإشهار، ويكذبون على القرّاء وعلى أنفسهم. يكذبون حتى على الملك، ويدّعون “الدفاع عن العرش” و”الذود عن المقدسات” و”التعلّق بالأهداب”: أيّ أهداب يا أحفاد ابن هانئ الأندلسي؟ وابن هانئ – لمن لا يعرفه – شاعر آخر كذّاب، قال ذات يوم للمعز لدين الله الفاطمي:

“ما شئت لا ما شاءت الأقدار… فاحكم فأنت الواحد القهارُ!”

“وكأنما أنت النبي محمد… وكأنما أنصارك الأنصارُ”

ابن هانئ الأندلسي كان موهوبا على الأقل، المشكلة مع ابن “هاني… وعندك تنساني!”

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

“لحيس الكاپة” “لحيس الكاپة”



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya