بقلم - جمال بودومة
لم أفهم يوما لماذا ينشر أطبّاؤنا العباقرة «سيرهم الذاتية» أمام أبْواب العيادات؟ في كلّ بلدان الدنيا يكتب الطبيب ثلاث كلمات على صفيحة صغيرة: اسمه الشخصي والعائلي ومجال التخصص. في المغرب، يفيدنا الدكاترة بمؤهلاتهم العلمية في تفاصيلها الدقيقة والمعقّدة، بالعربية والفرنسية، ويضيفون إليها الموادّ التي درسوا ومختلف الكليات التي مرّوا منها والجامعات الدولية التي أكملوا فيها التكوين، وحتى إن كانت الفترة التي قضاها الدكتور في إحدى الجامعات الأوروبية لا تتجاوز الشهرين يصرّ أن يضع على اللوحة الإشهارية بأنه دكتور من «روني ديكارت»… ما يشتمّ منه رائحة الاحتيال. أحيانا تغطي «سيفيات» الأطباء واجهة بناية بكاملها، ويبدو المشهد مثل معرض فني طريف، كما حال الواجهة الأمامية لعمارة «السعادة» بالرباط مثلا.
كأنّها دكاكين وليست عيادات. أذكر يوما كان عندي مشكل في السمع، وذهبت عند طبيب متخصص في الأذن والأنف والحنجرة، ممن يضعون «السيڤي» كاملا أمام الباب. وبعد أن نقّى أذنيّ بآلة كهربائية وتأكد أنني صرت أسمع جيدا، «نقّاهما» لي ثانية… لكن هذه المرة بحديث طويل عن المعدات التي يتوفر عليها ومعظمها جلبها «من الخارج». وسألني إن كان لي مشكل في الأنف، وفي الخياشيم، وفي الفم، وفي البلعوم… قال إنه يملك جهازا نادرا يجري فحصا شاملا للجهاز الهضمي وحاسة الشم والحلق ويكشف عن الحساسيات. وعندما سألته كم ستكلف العملية، قفز من مكانه وأخرج آلة حاسبة، وشرع يجمع ويحصي ويطرح مثل أي بائع خضر. في النهاية رفع رأسه نحوي وقال: «المجموع كله ألف وخمسمائة درهم». وتدارك: «مع تخفيضات مهمة تصل إلى ثلاثمائة درهم». نظرت إليه مفزوعا وتساءلت إن كنت عند طبيب أم بائع ملابس. لكنني ظللت أردّد منافقا: رائع، ممتاز، مدهش، هائل… عندكم كل هذا العتاد!… عندما فهم أنني أسخر، «جمع الوقفة» وقلب الأمر مزاحا: «إيه عندنا كلشي هاد الشي وفرمضان كنديرو الشباكية»… وضحكنا معا. لمّا هممت بالانصراف، منعني بيديه وابتسامة المحتالين لا تفارق شفتيه: «الدفع هنا… لأن السكريتيرة مريضة هذا النهار!»
الطبّ مهنة ساحرة. حلمنا جميعا بمزاولتها أيام الصبا والأوهام. ورغم وصول كثير من أولاد الشعب إلى المهنة، مازال أبناء الأثرياء يسيطرون على الوزرات البيضاء في الكليات والعيادات الخاصة. وثمة أطبّاء مغاربة يسيّرون أقساما وطواقم ومختبرات خطيرة في العالم. وهناك في المستشفيات العمومية دكاترة ممتازون، بكفاءات عالية وضمائر من ذهب، يعانون نقصا فظيعا في المعدات والدواء والأسرّة والأجور. وثمة عيادات ذات سمعة طيبة في بعض التخصصات، ولكن ثمة عيادات كثيرة تتاجر بمرض المواطنين وتنهب جيوبهم، مستعملة شتى الحيل من أجل استنزاف المرضى، وعلى رأسها تمديد فترة العلاج دون داع أو إدخال المريض إلى «البلوك أوپيراتوار»، فقط كي ترتفع الفاتورة. علما أن الليلة عندهم تفوق ثمن النوم في غرفة بـ»هيلتون»، دون الحديث عن كلفة العلاج. وفي الأخير تجدهم قد نسوا في أحشائك مقصا أو فوطة، أو بتروا أحد أعضائك خطأ!
هناك فوضى واحتيال في مهنة الطبّ بالمغرب، يصل حد الفضيحة. أطباء بلا ضمير وبلا كفاءة وبلا حياء… وبلا شهادات أحيانا… دون الحديث عن بعض دكاترة أوروبا الشرقية، الذين كانت جامعات الدول الشيوعية حيث درسوا تهتمّ بماركس ولينين أكثر مما تهتمّ بأبقراط وبّاستور. ويحكي بعض ألسنة السوء ممن درسوا في روسيا، أن الأجانب الوافدين إلى بلاد الثورة الحمراء، لم يكونوا يدرسون في الكليات نفسها مع الروس، بل كانوا يوضعون في كلية شهيرة اسمها «باتريس لومومبا»، حيث يحفظون كتاب «رأس المال» صفحة صفحة، وينكبون على دراسة تفاصيل الثورة البلشفية وحياة لينين وستالين… بالإضافة إلى مادّة تكميلية يفترض أنّها تخصّص الطالب. وفي النهاية صاروا أطباء يا «طافاريش»!