روسيا بين السكرة والفكرة
أخر الأخبار

روسيا بين السكرة والفكرة

المغرب اليوم -

روسيا بين السكرة والفكرة

بقلم : مصطفى فحص

في سكرة التوسع الروسية، لم يعد فلاديمير بوتين ذلك الرئيس الذي يمارس مهامه بشكل اعتيادي، فهو منذ أن وصلت دباباته إلى أوكرانيا وطائراته إلى سوريا، يقيم بين خرائطه العسكرية محاًطا بجنرالاته، يستمع إلى إحاطة يومية يقدمها زملاؤه السابقون في جهاز المخابرات، حول وضع العدو العاجز عن تقدير خطوات الكرملين المستقبلية أو ردات فعله، مزهًوا بانتصارات الدبلوماسية الروسية التي رفعت لاءاتها بوجه أكبر الدول في مجلس الأمن دفاًعا عن موقع روسيا العالمي، ففي زمن القيصر لم تعد موسكو تقيم وزًنا لدولة أو حلف عندما تتحرك دفاًعا عن مصالحها، حتى لو استدعى ذلك مواجهة مباشرة أو بالوكالة أو حتى التلويح بخيارات غير تقليدية، وقد أوغلت في السنوات الأخيرة باستخدام القوة كوسيلة أقل كلفة من أجل استعادة
هيبة الدولة العظمى، بعد أن حول قادة الجيش أحلام الأوكرانيين إلى كوابيس، وحياة السوريين إلى جحيم، فالقوة في العقيدة القتالية الروسية الجديدة لم تعد دفاعية فقط، بل هي الأداة الأنجع من أجل استعادة التوازن، والممر الضروري لفرض نظام عالمي جديد.

في نشوة القوة، يبدو أن فلاديمير بوتين أعلن انتدابه الكامل على سوريا، وهدد بتحويل معركة حلب إلى جحيم، وحذر من الثمن الذي سيدفعه كل من يقف بوجه سياسته، فباعتقاده أنه لوحده يضع شروط المواجهة، وأنه القادر على تحديد مكانها وزمانها، فحشد صواريخه استعداًدا لمنازلة طويلة كانت أم قصيرة، لكن اعتباراتها مصيرية؛ ففوق حطام المدينة والضحايا من أهلها ستسقط إمبراطوريات وتستعاد أخرى، فحلب هي المحطة الواصلة بين طموحات القيصر من سهوب آسيا الوسطى إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، إذ إن الموانئ السورية لم تعد تتسع لقطع الأسطول الروسي، لذلك البحث جاٍر عن مرافق أخرى كانت في السابق موطئ قدم للسوفيات.

بعد عام على الاجتياح، يرفض فلاديمير بوتين، الاعتراف بعدم النجاح في حسم المعركة بأقل الخسائر السياسية والعسكرية، وبتجنيب بلاده تكلفة اقتصادية، وبأن خطواته التصعيدية أجبرت الدول الكبرى على التحرك، واستعادة زمام المبادرة، فكشفته في مجلس الأمن، ولوحت بإجراءات غير دبلوماسية، وعلى الرغم من شبه القناعة لدى موسكو بأن الفعل الأميركي معطل بفعل وجود أوباما في البيت الأبيض، فإن لهجة واشنطن والعواصم الأوروبية القاسية كانت أقرب إلى جرس الإنذار الذي دق في أروقة صنع القرار الروسي،
فكان على القيصر أن يصحو من السكرة قبل أن تسبقه الفكرة، والفكرة حلت معه في إسطنبول، فعلى الرغم من حفاوة الاستقبال، فإن الثقة الروسية بالتاجر العثماني تبقى محدودة، فحفيد السلاطين يتقن ربط المصلحة بالعقيدة، والثروة بالجغرافيا، وتعلم الدرس من الانحياز المبكر أو القرار المستعجل، وفقد الثقة بحلفائه الذين خانوه أكثر من مرة، وبات يدرك تجنب استفزاز أعدائه الذين دَّفعوه ثمن ثقته بحلفائه، فاختار أن يقدم التجارة ويؤجل السياسة، لذلك اختار أن ينصاع للقيصر، بانتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، مساء 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في واشنطن.

ولكن في إسطنبول، التي حرد الرئيس الإيراني عن حضور قمتها للطاقة، لمس القيصر صعوبة موقفه الإقليمي، فهو عالق بين الدهاء العثماني والخبث الفارسي؛ الأول يريد شراكة مصالح ومنافع مستفيًدا من حاجة الروس إليه كممر إلزامي لنقل الطاقة إلى الأسواق العالمية، بينما يعلم الثاني أنه لا غنى عنه، فهو الحليف الواضح والصريح في سوريا، والشريك الذي وفر على موسكو إرسال جنودها. وتزداد حيرة بوتين بين التركي الذي قرر أن لاُيلدغ من جحر أوباما السوري مرتين، والإيراني الذي لم يزل ينتظر إشارة واضحة من الأميركيين، كي يحصل على ما تعجز موسكو عن تأمينه له، حيث تفتقد موسكو القدرة على إرضاء الطرفين، مما يضعها في دائرة صراع المصالح والمنافع المتفاقم بين الجانبين التركي والإيراني، الذي يحاول
بشتى السبل البحث عن ممرات أخرى لتصدير الطاقة، تجنب بلاده الابتزاز التركي وتؤمن له المزيد من الاستقلالية في قراراته الاقتصادية.

عليه، بات بوتين العالق على أبواب حلب بأمّس الحاجة إلى إعادة التوازن لعلاقاته الاستراتيجية في المنطقة عبر تركيا، وهو توازن له امتداداته داخل التركيبة الدينية والعرقية للمسلمين الروس، الذين لن يستطيع أحد ضبط ردات فعلهم في حال أمن الطيران الروسي الغطاء للميليشيات الإيرانية الشيعية في احتلال حلب، وله تأثيره الكبير على الأغلبية العربية السنية التي لم تَر إلا انحياًزا روسًيا لإيران، وهو توازن إذا نجح الأتراك في إيصال فكرته للروس، فإنه يجنبهم مواجهة غربية أصبحت قريبة، ستتحول إلى حرب استنزاف طويلة لن تختلف نتائجها عن الحرب الأفغانية.

الفكرة الأوضح لدى بوتين أن أنقرة أّمنت مصالحها الاقتصادية مع روسيا، وتراقب التصعيد الغربي الروسي حول سوريا دون إبداء حماس لأي طرف، فيما تقع غريمتها طهران حائرة بين حاجتها الضرورية لروسيا في سوريا، وتحملها أعباء المواجهة إن حصلت.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

روسيا بين السكرة والفكرة روسيا بين السكرة والفكرة



GMT 13:21 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

معركة اللبنانيين لبناء جمهورية يستحقونها

GMT 14:11 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

العراق... ثلاثية الجيش والشعب والمرجعية

GMT 12:10 2019 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران بين الصبر الاستراتيجي والاقتصاد المقاوم

GMT 06:11 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان بين صيغتين

GMT 05:17 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان... الطريق إلى الجمهورية الثالثة

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 07:11 2015 الخميس ,30 إبريل / نيسان

رجل أعمال يغتصب ابن صديقه في الدار البيضاء

GMT 02:00 2015 الإثنين ,26 كانون الثاني / يناير

هاجر قشوش توضح سر أناقة المرأة بالعباءة الخليجية

GMT 18:35 2016 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لاعب وسط ريال مدريد إيسكو يزُفُّ نبأً سارًا لجماهير النادي

GMT 03:47 2016 الأحد ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

"تويوتا بريوس" تفوز بلقب أفضل سيارة صديقة للبيئة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya