لماذا قبل اليوسفي مارفضه بوستة فرضية التمويه

لماذا قبل اليوسفي مارفضه بوستة؟ "فرضية التمويه"

المغرب اليوم -

لماذا قبل اليوسفي مارفضه بوستة فرضية التمويه

محمد الساسي

إقدام اليوسفي على قبول التناوب، بالصيغة التي تَمَّ فيها عام 1998، بدا غريباً للكثيرين، فلقد عُرف عن الرجل أنه كان من أصلب المعارضين للديمقراطية الصورية، وأنه شديد الحذر من الدخول، غير المرتب بإحكام وغير محسوب العواقب، في تسويات سياسية، وأنه متشدد بخصوص شروط المشاركة في الحكومة، خوفًا من أن تتحول هذه المشاركة إلى مجرد وسيلة لمنح السلطوية نفساً تحس بأنها في حاجة إليه.

قَبِلَ اليوسفي أن يكون وزيراً أول في حكومة يشارك فيها إدريس البصري، وزير الدولة في الداخلية، الذي سمح له الحسن الثاني بامتلاك نفوذ من شأنه أن يعرقل عمل الوزير الأول الجديد والحكومة الجديدة ويُبقي عليها مشدودة بقوة إلى تقاليد الماضي؛ بينما رفض امحمدبوستة، بشكل قاطع ونهائي، استوزار البصري. الرجل المُعْتَرَضُ عليه، كما هو معلوم، أشرف، من موقعه كوزير للداخلية، على صناعة الأحزاب وتزوير الانتخابات وشراء النخب وتخريب السياسة ومصادرة الحريات وقمع الأصوات الحرة، ووضع أسس الهندسة التي عملت على تحويل الحقل السياسي برمته إلى جهاز تابع لمركز السلطة وعلى ترسيم الريع السياسي وجعل الخبرة بديلاً عن الالتزام وإسباغ مظهر الحذق والنباهة على سلوكات تكرس العبودية، والاستعاضة عن المنافسة بين البرامج بمنافسة على كسب رضى السلطة وخدمة شخص الحاكم، وترتيب الانتقال من مغرب بأحزاب إلى مغرب بحزب واحد متحد في الخصائص والمقومات رغم تعدد التسميات.

هناك أطروحة استندت، في تفسير قبول اليوسفي بما رفضه بوستة، إلى أن العرض، الذي قُدِّمَ إلى بوستة بتقلد منصب الوزير الأول في حكومة للتناوب، كان له طابع وهمي فقط، فالحسن الثاني رصد هذا المنصب لشخص واحد هو اليوسفي، وحنكة بوستة جعلته يعي أبعاد اللعبة فَرَدَّ على عرض وهمي بتشدد وهمي. بوستة–حسب ما تُوحي به الأطروحة المشار إليها– يمثل، ربما، نموذج السياسي المغربي الذي لا يمكن، في الأصل، أن يرفض منصب الوزير الأول أوأن يعلق قبوله على شرط ما، فهو يمثل مدرسة تموت عشقاً في المناصب الحكومية، ولهذا فإن الشروط التي وضعها هي أكبر منه وأكبر من الإطار السياسي الذي ينتمي إليه، ولو كان يعلم أن الإرادة الملكية متجهة، فعلاً، إلى الإنعام عليه بمنصب الوزير الأول لانقض على الفرصة بدون تردد.

هذه الأطروحة تتجاهل المواقف التي سبق أن عَبَّر عنها ذ. بوستة، في عدد من المناسبات، والتي لم ينل "التقدميون" شرف اتخاذها، ففضلاً عن رفضه منصب الوزير الأول، في حكومة يكون إدريس البصري وزيراً فيها، فإنه :

-       أول زعيم سياسي يصرح ، علناً، في عز الحملة الانتخابية، بأن المقدمين والشيوخ يقومون بالدعاية له في الدائرة التي ترشح فيها، ويستنكر خرق أعوان السلطة لواجب الحياد، ويؤكد أنه ليس في حاجة إلى أصوات تُمنح له بواسطة هذه السلوكات الماسة بالنزاهة؛

-       أول مسؤول حزبي يعلن، عند افتتاح مؤتمر وطني لحزبه، أن الملك قَدَّمَ هبة مالية إلى المؤتمر، في وقت كان مسؤولو الأحزاب الأخرى يفضلون عدم إخبار رفاقهم فيالحزب بتلقيهم حقائب الأموال النقدية الممنوحة إلى الأحزاب بمناسبة مؤتمراتها؛

-       أول رئيس حزبي يختار، عن طواعية وهو قيد حياته، التخلي عن رئاسة الحزب والسماح بحصول تداول سلس على المسؤولية الأولى في الحزب، دون أن يغادر صفوف هذا الحزب أو يعتزل العمل السياسي.

وليس خافياً، على الكثيرين، أن بوستة كان الأكثر ميلاً إلى عدم التصويت بنعم على دستور 1992، إذ كان يعتقد أن العمل الوحدوي بين القوى الديمقراطية يمكن أن يفضي إلى انتزاع دستور أحسن.

وهكذا يظهر أن الموقف الذي اتخذه بوستة، حيال الاقتراح الملكي بتوليه مهام الوزير الأول، لا يمكن عزله عن مجموعة من المواقف السابقة واللاحقة، التي صدرت عنه، والتي أبان فيها الرجل عن درجة عالية من الالتزام المبدئي والأخلاقي والوعي بمتطلبات بناء الديمقراطية وقص أجنحة السلطوية.

بناء على كل ما سبق، يمكن المجازفة، في نظرنا، باعتماد أطروحة ثانية تستند إلى فرضية الاعتبار الشخصي لتفسير تساهل اليوسفي حيال الشروط المطلوبة لقيام تناوب منتج ومعزز لمسار النضال الديمقراطي في البلاد.

الاعتبارات الشخصية، كما يبرز ذلك جلياً من خلال مذكرات عدد من القادة الوطنيين المغاربة، لعبت، في أحيان كثيرة، دورا حاسما في اتخاذ قرارات تهم مواضيع ذات طابع "إستراتيجي". وتكفي الإشارة، مثلاً، إلى آثار خيبة الأمل التي أُصيب بها محمد بلحسن الوزاني، بعد الجلسة التي زكت، بفارق بسيط في الأصوات، زعامة علال الفاسي للحركة الوطنية .. إلخ.

الطريقة التي قبل بها اليوسفي ركوب مغامرة التناوب تكشف، ربما، جزءاً مما حَلَّ بالكيان النفسي للرجل من صدمات وما صادفه من مفاجآت. المعروف عن اليوسفي أنه شخص كتوم، صموت، صبور، هادئ، متبصر، غير مندفع، عقلاني، يزن كلماته وأفعاله بعناية ودقة، لا يستسلم للنزوات أو الانفعالات العابرة، ولا يتخذ القرارات في فورة حماسة أو غضب، يفكر في كل الأمور ملياً، ويلتزم بممارسة السياسة بأقصى درجات الكياسة والحيطة؛ لكنه، أيضاً، مثل عامة البشر، يمكن أن نكسبهم في حالة ما إذا وضعناهم موضع تكريم وتبجيل، ويمكن أن ننتظر رد فعلهم في حالة ما إذا قمنا بإيذائهم معنوياً والمس بكرامتهم.

واليوسفي عاش الحالتين معاً :

-       الملك الحسن الثاني خصه بتشريف لم يمنحه لغيره، وعامله بطريقة لم يسبق أن عامل بها شخصاً آخر، وأحسن استقباله ومخاطبته، وأشاد أمامه بشخصه وخصاله، وأغدق عليه فائق آيات التكريم والإكبار، وأدخله إلى فضائه الأسري الحميمي وقدمه إلى أبنائه وأوصاه خيراً بهم وأشعره بأنه يتركهم أمانة في عنقه، وتحدث إليه كما يتحدث الإنسان إلى أخ شقيق أو إلى أقرب المقربين؛ تناول معه طعامه الخاص، ودعاه إلى استعمال المصعد الملكي الخاص..

ولهذا، بعد وفاة الحسن الثاني، كانت أول شهادة قدمها اليوسفي في حقه عبارة عن استذكار واسترجاع لبعض من هذه المواقف المؤثرة.

الحسن الثاني بارع في دراسة نفسية الأشخاص الذين يضطر إلى التعامل معهم. ومظاهر التقدير العالي التي أحاط بها شخص اليوسفي خَلَّفَتْ أثراً عميقاً في نفس هذا الأخير وجعلته يحس، ربما، بواجب رد الجميل.

ولقد عبر عن ذلك الأستاذ  امحمد بوستة بأمانة حين قال : "اليوسفي أثر فيه الكلام الذي سمعه من الملك الحسن الثاني، فأعطى التزاماً بتشكيل الحكومة"؛

-       رفاق اليوسفي، في قيادة الحزب–أو جزء كبير منهم على الأقل- لم يتعاملوا، بالقدر الكافي من الجدية، مع استقالته في 1993 ولم يقدروها حق قدرها ولم يستجيبوا لما تفرضه عليهم من التزامات؛ بل أحس الرجِل أنهم فرحوا بها واعتبروها مناسبة للتخلص من رجل مزعج يُكْثِرُ من وضع الشروط في وجه تناوب ضروري ومستعجل ولا يتحمل التأخير. لقد تصرفوا بما يفيد بأن غضبة اليوسفي تلزمه هو وحده، أما بالنسبة إليهم فلا مجال لمزيد من إضاعة الوقت ولا تحفظ لديهم على أي من عروض النظام حول التناوب.

علم اليوسفي، وهو في "كان"، بأن قطاعا واسعاً من النخبة الاتحادية شرع في ترتيب شروط الانخراط، بدونه، في التناوب و"ترسيم الاستقالة" والحيلولة دون عودة الرجل. اليوسفي أحس بالإهانة وشعر بأن رفاقه أساؤوا إليه، وقارن بين الطريقة التي تعامل بها معه الحسن الثاني والطريقة التي تعاملوا بها معه. وأدرك أن قبوله قيادة تجربة التناوب سيتيح له فرصة استرجاع هيبته والرد، بطريقته الخاصة، على مناورات قادة أرادوا إحكام سيطرتهم على الحزب، في غيابه، وعقد صفقة مع النظام وطي صفحة اليوسفي وإحالته على متحف التاريخ.

وبفضل قبوله منصب الوزير الأول، فإن خصومه، داخل الحزب، والذين سبق أن أفتوا بضرورة إنهاء الارتباط ب" الأساطير والأصنام" وبأن للحزب كاتبه الأول الموجود في المغرب، قد تحولوا ، بسرعة البرق، إلى حلفاء وأنصار ومشايعين يكيلون للرجل المديح، شعرًا ونثرًا، ويتغنون بأمجاده ويتنافسون على استرضائه، واصطفوا خلفه في رحلة تحويل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى حزب للمشاركة الحكومية الدائمة، أيّاً كانت الظروف والأحوال أو تركيبة النتائج الانتخابية، ولم يزعجهم، خلال فترة انطلاق التجربة تحديدا، أن يغدو "السي عبد الرحمان" الآمر الناهي المطلق ويصبح هو كل شيء في الحزب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا قبل اليوسفي مارفضه بوستة فرضية التمويه لماذا قبل اليوسفي مارفضه بوستة فرضية التمويه



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya