القاعدة الحزبية

القاعدة الحزبية

المغرب اليوم -

القاعدة الحزبية

محمد الساسي

في مرحلة من المراحل، وجدت الأحزاب الديمقراطية، أو جُلُّهَا على الأقل، نفسها في وضع انتخابي صعب، إذ سقط عدد من قلاعها الانتخابية في أيدي خصومها، وانحسرت رقعة نفوذها الانتخابي، وتراجع ترتيبها، وخفت بريق حملاتها الانتخابية وضمر الطابع السياسي والهجومي لتلك الحملات، وفتر حماس مناضليها ومساندي مرشحيها، ونضبت مواردها من الأصوات. وهكذا، أصبح عدد من الرموز النضالية، ذات التاريخ النضالي المشهود، يجد، على خلاف ما كان عليه الأمر في الماضي، صعوبة في الفوز، ولا يستطيع، تلقائياً وبدون تدخل التزوير المباشر، ضمان العضوية بالبرلمان أو بمجلس جماعي.
هناك عوامل عدة ساهمت في حصول المصاعب الانتخابية الجديدة التي انتصبت أمام الأحزاب الديمقراطية :
1- خدوش أصابت صورة هذه الأحزاب والتي لم تعد، في نظر الكثيرين، مرادفة للنزاهة والصدق وصفاء الطوية ونشدان المصلحة العامة، ولم تعد تمثل مرجعاً في الالتزام واحترام المبادئ والتعهدات وفي الدفاع عن مصالح الجماهير الشعبية؛
2- فئات واسعة من الناخبين أُصيبت بخيبة أمل بسبب طبيعة الممارسات التي سقط فيها الكثير من مُنتَخَبي الأحزاب الديمقراطية والممارسات التي انتهجها حكوميوها، فيما بعد؛ 3
- قواعد انتخابية فضلت الالتزام، تعاقدياً، بالتصويت الدائم على أعيان محددين، بغض الطرف عن طبيعة الحزب الذي يتم الترشيح تحت لوائه. وقد أدى العزوف الانتخابي إلى جعل أصـوات تلك القواعد فاعلة ومؤثـرة، جذرياً، في النتائج؛
4- أحزاب إدارية أصبحت قادرة على الفوز بدون حاجة إلى تزوير مفضوح وتحريف للبيانات الواردة في المحاضر؛
5- قواعد انتخابية فضلت المرشح الإسلامي الجديد وعلَّقت عليه آمالاً واسعة وتَوَسَّمَتْ فيه خيراً واعتبرت التصويت عليه بمثابة اهتداء إلى "طريق الخلاص"؛
6- قواعد انتخابية نفضت يدها من الانتخابات برمتها وبدأت ترى بأنها مجرد لعبة مجازية لا يجني المواطن من ورائها كسباً جديا، وأن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي يظل هو نفسه ولا يبرح مكانه بوجود الانتخابات أوبدونها، وأن ما تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج ليس من شأنه تعويض برنامج الدولة القار ببرنامج آخر.
الأحزاب الديمقراطية خشيت، إن هي لم تغير من نهجها الانتخابي، أن تجد نفسها محشورة في زمرة الأحزاب "الصغيرة" ذات الموقع الانتخابي الهامشي، وأن تصبح عاجزة حتى عن تكوين فريق نيابي أوتسيير بعض جماعات المدن الكبرى، خاصة أن هذه الأحزاب توصلت، وهي في مستوى معين من تطور مسارها الانتخابي، إلى المراهنة على المقاعد بعد أن كان البعض منها يرفع شعار (المقاعد لا تهم)، وأصبح هاجسها هو الحصول على أكبر عدد من مقاعد الجماعات المحلية لتعبيد طريق الحصول على أكبر عدد من النواب في البرلمان، لكي يُتَوجَ كل ذلك بالحصول على أكبر عدد ممكن من الوزراء.
اختارت قيادات الأحزاب الديمقراطية أن تتجنب اعتماد "الحل الصعب" المتمثل في محاسبة منتخبيها وتقييم حصيلة تجاربها الانتخابية وتصحيح الاختلالات التي عرفتها، ودمقرطة بنياتها الداخلية، وإعادة تخليق ممارساتها ورفع مستوى أدائها، والاعتراف بالأخطاء التي كانت السبب في قيام الصعوبات الانتخابية الطارئة واتخاذ القرارات الشجاعة التي تتطلبها مقتضيات الترشيد والحكامة الجيدة ومحاسبة المخطئين، والضغط في اتجاه تحقيق تغيير دستوري وقانوني هيكلي وعميق قادر على إعطاء معنى جديد للمشاركة الحكومية وعلى تحويل المؤسسات المنتخبة إلى مركز حقيقي للقرار وتلبية حاجة الجماهير إلى وضع البلاد على سكة اختيارات أخرى بديلة.
قررت القيادات الحزبية اعتماد "الحل السهل"، وهو يقوم على جملة من العناصر التي يمثل "استيراد الأعيان"، الذين سبق لهم الترشيح باسم الأحزاب الإدارية، أبرزها على الإطلاق. وبما أن النية كانت متجهة إلى انتزاع أكبر عدد من المقاعد الانتخابية، فإن ذلك دفع القيادات إلى البحث عن سبل ترشيح أكبر عدد من الأعيان، وتَمَّ النظر إلى عملية جلب الأعيان وإعادة ترشيحهم باسم الأحزاب الديمقراطية كطوق نجاة وحيد للخروج من الأزمة الانتخابية التي حَلَّت بهذه الأحزاب.
طبعاً، الأعيان هم مواطنون من حقهم الترشح في الانتخابات وممارسة السياسة والانتساب إلى الأحزاب، لكن الفئة المقصودة، هنا، هي تلك التي تضم كائنات لها وجاهة اجتماعية وملاءة مالية، ولكنها، في ذات الوقت، لا تتوقف عن ممارسة الترحال الحزبي، وتعتمد وسائل غير مشروعة، يوجد استعمال المال على رأسها، وتخوض حملات انتخابية تدور حول الشخص وليس حول الحزب أو البرنامج، و"تتفاوض" مع قيادات الأحزاب حول شروط الترشيح كما لو كانت بصدد عملية في البورصة، وترتبط بعلاقة "خاصة" مع جهاز الدولة.
الأعيان "منتمون" إلى مختلف الأحزاب، ولكن، من الصعب أن يرتبطوا، عاطفياً، بحزب من الأحزاب، فهم يشكلون، جميعاً، حزباً غير معلن يخترق أعضاؤه مختلف الأحزاب. الأعيان يتخذون قرار الترشيح، ثم يبحثون عن الحزب الذي يستعملون رمزه في الانتخابات، ولا ينتظرون، بالتالي، أن تتخذ الأجهزة الحزبية قرار ترشيحهم، فإذا لم تجر تزكية ترشيحهم في آخر حزب حطوا به الرحال، فإنهم يغادرونه إلى حزب آخر يقبل ترشيحهم مالم يتلقوا إشارة بالتزام العكس.
الأعيان الذين قبلوا الترشيح، باسم الأحزاب الديمقراطية، صنعوا ذلك إما بناءً على تعليمات تلقوها تَحُثُّ على هذا الترشيح أو تجيزه وإما بناءً على عدم تلقيهم تعليمات تُحَذِّرُ من هذا الترشيح وتستقبحه. وهذا يعني أن الأحزاب المذكورة لم يعد يُنظر إليها كأحزاب مزعجة أو أحزاب مغضوب عليها، بل، بالعكس، سيكون الأعيان قد لاحظوا أن هناك رغبة رسمية في "إعادة الاعتبار" إلى الأحزاب الديمقراطية ومنحها بعض الامتيازات وإشراكها المستمر في التدبير الحكومي. أحس الأعيان، ربما، بأنهم سيترشحون باسم أحزاب مرغوب في بقائها ضمن مكونات التشكيلات الحكومية لمدة طويلة، وحتى إذا ما التحق بعضها بالمعارضة فسيكون ذلك بمثابة حادث عرضي واستثنائي وقوس فُتح ويمكن أن يُغلق عند أول تعديل حكومي. وقَدَّرَ الأعيان، أيضاً، أنهم سيجنون منافع رمزية من ترشيحهم باسم الأحزاب الديمقراطية و"عضويتهم" فيها، ففضلاً عن الرغبة في تبييض التاريخ الشخصي لكل واحد منهم، فإنهم سيستفيدون، معنوياً، من توليهم أمر الحديث باسم أحزاب تتوفر على قطاعات ومؤسسات إعلامية وتنظيمية وفكرية وعلاقات خارجية وإرث نضالي وأطر مقتدرة ومثقفين مرموقين. الأحزاب الديمقراطية استعارت ظاهرة استقطاب الأعيان من الأحزاب الإدارية، والأحزاب الإدارية استعارت من الأحزاب الديمقراطية بعض القواعد الشكلية للتنظيم الداخلي.
هناك، إذن، تبادل للتأثير، وما وقع في المؤتمرات الأخيرة للأحزاب الديمقراطية يشي بحصول تحول في القاعدة البشرية لهذه الأحزاب في اتجاه تحكم "الأعيان" وتراجع تأثير"المناضلين"؛ ففي مرحلة أولى، كان الأعيان حاضرين ولكن المناضلين (الأعضاء القدامى) هم الذين كانوا يتحكمون في المسار التنظيمي للحزب؛ أما في المرحلة الحالية، فيُلاحظ أن الأعيان يتجهون، شيئاً فشيئاً، نحو إحكام سيطرتهم على الحزب، من خلال تجنيد"النشطاء" التابعين لهم والذين جرى تسليمهم بطاقات العضوية الحزبية، ومن خلال التأثير في الوافدين الجدد –أي الأعضاء الذين أتى بهم قطار المشاركة الحكومية- وخلق شبكات للزبناء، داخل الحزب، موازية لشبكات الزبناء التي يتوفرون عليها في دوائرهم. والنتيجة أن الأعيان اليوم لا يكتفون بالهيمنة على عمل قطاعات المُنْتَخَبِين داخل الحزب بل أصبحوا يؤثرون في مجرى المؤتمرات وانتخابات القادة، ويضمنون التصويت على القائد مقابل دفتر تحملات تُبذل لهم فيه تنازلات جمة على حساب الخط الأصلي للحزب. وعلى العموم، يُلاحظ أن القيادات تعتبر الأعيان الوافدين أهم، لديها، من "بقية الأعضاء" وتحاول ألا تزعجهم وأن تكون عند حسن ظنهم وأن تزكي تمثيلهم في الأجهزة الحزبية المسيرة، محليًا ووطنيًا.
الأحزاب الديمقراطية التي تبنت خط استيراد الأعيان من الأحزاب الإدارية أصبحت لها مكانة مؤسسية غير مطابقة لقوتها الحقيقية، مادام الأعيان، أو أكثرهم، ليسوا، في حقيقة الأمر، مناضلين ملتزمين، بل مجرد لاعبين مُعَارين يمارسون اللعبة وفق نفس الخطط والوسائل التي مارسوا بها اللعبة، دائماً، فطبيعة نشاطهم في حظيرة الأحزاب الديمقراطية هي استمرار لطبيعة نشاطهم في الأحزاب الإدارية ولم تتغير سوى الرموز. الأحزاب الديمقراطية، اليوم، هي أجسام تتحرك بمنشطات، والثمن المؤدى يتجلى في نوع من الهشاشة الأخلاقية التي تُفْقِدُ هذه الأحزاب استقلاليتها.
والنتيجة أن الأعضاء القدامى إما انسحبوا وانتشروا في أرض الله الواسعة أو ظلوا داخل الحزب ولكنهم تراجعوا إلى الخلف أو حاولوا الإصلاح من الداخل وفشلوا حتى الآن. وها هي أحزاب جديدة تخرج من رحم الأحزاب الديمقراطية، ولم تعد التسميات تعني شيئًا. المؤتمرون في المؤتمرات الأخيرة للأحزاب الديمقراطية، يصرخون ويصوتون ويَنْتَخِبُونَ ويُنتَخَبُون ويتدخلون في المساطر، ولكن فئة قليلة منهم هي التي تناقش مشاريع الأوراق!
في خضم التحول الذي أصاب بنية القاعدة الحزبية وقاعدة مؤتمري الحزب "الديمقراطي" المغربي في صيغته الجديدة، يحق لنا التساؤل : هل مهمة الإصلاح الحزبي من الداخل لازالت ممكنة؟.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القاعدة الحزبية القاعدة الحزبية



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 19:14 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم الأربعاء 2 كانون الأول / ديسمبر لبرج العقرب

GMT 11:55 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 15:33 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الجوزاء

GMT 19:14 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

جون تيري يكشف مميزات الفرعون المصري تريزيجيه

GMT 17:27 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وضع اللمسات الأخيرة على "فيلم مش هندي" من بطولة خالد حمزاوي

GMT 22:05 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك كل ما تريد معرفته عن PlayStation 5 القادم في 2020

GMT 05:54 2017 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

بسمة بوسيل تظهر بإطلالة العروس في أحدث جلسة تصوير

GMT 09:38 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

خلطات منزلية من نبات الزعتر الغني بالمعادن لتطويل الشعر

GMT 16:41 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

لمحة فنية رائعة من صلاح تسفر عن هدف

GMT 12:21 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

محمد يتيم يعود للكتابة بالدعوة إلى "إصلاح ثقافي عميق"
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya