بريطانيا وفرنسا أزمة قيادات

بريطانيا وفرنسا.. أزمة قيادات

المغرب اليوم -

بريطانيا وفرنسا أزمة قيادات

بقلم - خير الله خير الله

لم تستطع ماي تقليد تاتشر. فشلت في ذلك تماما، كما فشل ماكرون الذي كانت ولا تزال تنقصه الخبرة السياسية التي تجعله قادرا على مقارنة نفسه بشارل ديغول أو فرنسوا ميتران أو جاك شيراك.

لم تستطع تيريزا ماي أن تكون مارغريت تاتشر
عندما تمر ديمقراطيتان عريقتان هما بريطانيا وفرنسا بما تمرّان به، لا يعود شكّ بأنّ هناك أزمة قيادات في هذا العالم. فما يحدث في بريطانيا حيث ضياع كامل مستمر منذ ما يزيد على عاميْن نتيجة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أي ما يسمّى “بريكست”، يعكس قبل أي شيء آخر حال الفراغ السياسي في بلد كان في الماضي إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

تولت تيريزا ماي موقع رئيس الوزراء كي تلملم الأضرار التي خلّفها سلفها ديفيد كاميرون الذي دعا، لأسباب مازالت مجهولة، إلى استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه.

كان في استطاعة بريطانيا تفادي مثل هذه الكارثة التي لم تعد تعرف كيف الخروج منها، خصوصا أن كاميرون نفسه كان مع البقاء في الاتحاد الأوروبي. إذا به يسقط في فخّ نصبه له مزايدون من نوع بوريس جونسون ونايجل فراج. لا يعرف جونسون، الذي حاولت ماي استرضاءه لاحقا، من السياسة غير الانتهازية. لذلك توارى بعد فشله في إدارة وزارة الخارجية وترك رئيسة الوزراء تغرق في المصائب الناجمة عن “بريكست”.

 أما فراج، اليميني المتطرف، فكان أوّل ما فعله بعد تحريضه على الخروج من الاتحاد الأوروبي أن وضع نفسه على الرفّ في انتظار فرصة أخرى يُلحق بها الضرر بموقع بريطانيا في أوروبا والعالم. مثل هذا الموقع مهدّد لأسباب عدّة في مقدّمها أن رئيسة الوزراء التي تنتمي إلى حزب المحافظين لم تعد تعرف ماذا تريد. لم تجد أمامها للهروب من المأزق الذي تواجهه سوى تأجيل التصويت في مجلس العموم (البرلمان) على الاتفاق الذي توصّلت إليه مع الاتحاد الأوروبي. تفادت بذلك هزيمة أكيدة كانت ستؤدي إلى تخليها عن موقع رئيس الوزراء.

الأخطر من ذلك كلّه أن الأزمة التي تعاني منها بريطانيا صارت أزمة حزب المحافظين أيضا. هذا يعني أنّ ماي ستجد نفسها عاجلا أم آجلا مضطرة إلى التخلي عن رئاسة الوزارة… أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة. مثل هذه الانتخابات يمكن أن تأتي في الظروف الراهنة بجريمي كوربين زعيم حزب العمّال الذي يمكن وصفه، في أفضل الأحوال، بأنه يساري حالم من النوع الذي جلب على بريطانيا كلّ ذلك البؤس في ستينات القرن الماضي وأوائل السبعينات. لا يذكّر كوربين بأفكاره البالية سوى بالطلاب اليساريين الذين تظاهروا في باريس في العام 1968، وطرحوا مطالب غير معقولة عبر شعارات من نوع “المخيلة في السلطة”.

ألحقَ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي أضرارا لا تحصى ببريطانيا. صوتت أكثرية مع “بريكست” من دون أي سبب وجيه. تبيّن أن كلّ الأرقام التي قدّمها الداعون إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي لا علاقة لها بالواقع. لم يعرف كاميرون، رئيس الوزراء وقتذاك، كيف يدير معركة البقاء في الاتحاد الأوروبي. انتظر الأسبوع الأخير، قبل الاستفتاء، ليشرح للمواطنين الأسباب التي توجب على بريطانيا التمسك بالاتحاد الأوروبي، خصوصا أن الاتحاد قدّم لها تنازلات كثيرة. من بين هذه التنازلات البقاء خارج منطقة العملة الموحدة (اليورو) واتفاق شنغن في شأن التأشيرة الأوروبية الموحّدة.

باختصار شديد، تبدو أزمة بريطانيا أزمة غياب القائد الذي يستطيع اتخاذ قرارات جريئة من نوع القول للبريطانيين إن الاستفتاء كان خطأ، وأن المملكة المتحدة غير قادرة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. أين العيب في العودة عن الخطأ عبر الدعوة إلى استفتاء جديد في غياب القدرة على تنفيذ “بريكست”، إضافة بالطبع إلى الكلفة العالية لأي خروج بريطاني من الاتحاد؟

ما تعاني منه بريطانيا من ضياع تعاني منه فرنسا أيضا. هنا أيضا، هناك معاناة من غياب القيادات. أرادت تيريزا ماي تقمّص شخصية “المرأة الحديد” مارغريت تاتشر، فانتهت إلى امرأة تبحث فقط عن كيفية البقاء في موقع رئيس الوزراء. ما ينطبق على تيريزا ماي، ينطبق إلى حدّ كبير أيضا على إيمانويل ماكرون الذي أراد بدوره تقليد مارغريت تاتشر التي غيّرت بريطانيا، ونقلتها من بلد ذي اقتصاد فاشل إلى قوّة اقتصادية عالمية ومكان يقصده كلّ من له علاقة من قريب أو بعيد بحركة الاقتصاد العالمي.

 حوّلت تاتشر، عبر سياسة حازمة، اقتصاد بريطانيا إلى اقتصاد قابل للحياة. خفضت الضرائب وأقرّ مجلس العموم في عهدها قوانين اقتصادية ليبيرالية تسهل على المستثمر الأجنبي العمل في بريطانيا. فوق ذلك كلّه قضت على نفوذ نقابات العمال. كان همّ القائمين على هذه النقابات تأمين أكبر مقدار من المكاسب للعمّال في مقابل أقلّ جهد يبذلونه في المكان الذي يعملون فيه. استفادت تاتشر من التجربة الأميركية حيث ممنوع ممارسة الكسل والاتكال على التقديمات التي توفّرها الدولة. أبعدت بريطانيا أكثر ما تستطيع عن الاشتراكية وكلّ مخلّفات اليسار. كانت النتيجة نجاحا منقطع النظير لتجربة انتهت بفصل حزين بعدما بالغت “المرأة الحديد” في احتقار السياسيين الآخرين، بمن في ذلك خصومها داخل حزب المحافظين.

لم تستطع ماي تقليد تاتشر. فشلت في ذلك تماما، كما فشل ماكرون الذي كانت ولا تزال تنقصه الخبرة السياسية التي تجعله قادرا على مقارنة نفسه بشارل ديغول أو فرنسوا ميتران أو جاك شيراك.

ما هو مطروح في فرنسا حاليا، بعد نزول ذوي “السترات الصفر” إلى الشارع، هو مستقبل الجمهورية الخامسة التي أسسها ديغول. لا يمكن لشخص جديد على السياسة القيام بالإصلاحات المطلوبة في غياب قاعدة شعبية واسعة قادرة على التصدي لتلك الفوضى وأعمال الشغب التي ارتكبها مرتدو “السترات الصفر”. فمن تصدّى للطلاب الذين ثاروا على ديغول في ربيع العام 1968 كان الشعب الفرنسي. نزل الفرنسيون إلى الشارع في تظاهرة ضخمة ليقولوا أن كفى تعني كفى، وأن لا مكان للخراب في فرنسا. أين الشعب الفرنسي الآن؟

ثمّة حال ضياع في بريطانيا وفرنسا. لم تستطع تيريزا ماي أن تكون مارغريت تاتشر، ولم يستطع إيمانويل أن ينقل تجربة “المرأة الحديد” إلى فرنسا. كان فرنسوا ميتران على حقّ، إلى حد ما طبعا، عندما قال في إحدى المرات “إنني آخر الرؤساء الكبار في فرنسا، بعدي سيأتي رجال مال ومدققو حسابات”. أخطأ في مكان واحد. جاء بعده جاك شيراك الذي عرف كيف يجد لفرنسا مكانا على خريطة العالم. جاء بعد ذلك صغار من مستوى نيكولا ساركوزي أو فرنسوا هولاند… فيما كان صعود ماكرون مفاجأة المفاجآت. هل يستطيع أن يكون شيئا آخر غير رجل مال ومدقّق حسابات؟

الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة إلى مستقبل الرجل الذي عليه إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقية عهده. أما بالنسبة إلى تيريزا ماي، فالأكيد أن مستقبلها بات محسوما. كانت قادرة على أن تكون الشخص الثاني في أيّ حكومة ناجحة. لم تستطع أن تكون مارغريت تاتشر أخرى في أيّ وقت من الأوقات. إنها أزمة غياب القائد قبل أيّ شيء آخر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بريطانيا وفرنسا أزمة قيادات بريطانيا وفرنسا أزمة قيادات



GMT 15:02 2020 الأحد ,09 شباط / فبراير

أنصار اسرائيل في اميركا يهاجمون المسلمين

GMT 16:11 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

من يفوز بالرئاسة الاميركية هذه المرة

GMT 17:21 2020 الجمعة ,07 شباط / فبراير

ايران وحادث الطائرة الاوكرانية

GMT 14:46 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

من دونالد ترامب الى اسرائيل

GMT 17:46 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخبار مهمة للقارئ العربي - ٢

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 15:55 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج الميزان

GMT 04:16 2019 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

زكي يوجه رسالة قوية إلى مسؤولي الدفاع الحسني الجديدي

GMT 14:34 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

"بريزنتيشن" تؤكد أن مُبررات "صلة" في شأن فسخ تعاقدها غير الصحة

GMT 08:32 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

"الأساور العريضة" تصلح لمختلف مناسبات صيف 2018

GMT 11:37 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

ياسمين جمال ترتدي فستان الزفاف للمرة الثانية بعد الطلاق

GMT 01:48 2016 السبت ,08 تشرين الأول / أكتوبر

علاج الشيب نهائياً وبألوان مختلفة

GMT 17:48 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

تمارين تساعدك في بناء العضلات وخسارة الوزن تعرف عليها

GMT 04:16 2019 الإثنين ,30 كانون الأول / ديسمبر

المغرب يشهد نهضة غير مسبوقة في مجال التنقيب عن النفط

GMT 06:33 2019 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على الفوائد المذهلة لثمرة الرمان على الصحة

GMT 17:22 2019 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

احصلى على أسنان ناصعة البياض فى المنزل

GMT 13:30 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

عربية السيدات تعتمد جوائز خاصة للفرق الرياضية

GMT 23:33 2018 الأحد ,21 تشرين الأول / أكتوبر

موعد الكشف عن "بوجاتي تشيرون سوبر سبورت" الجديدة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya