المدارس العتيقة المرتبطة بالمستقبل

'المدارس العتيقة' المرتبطة بالمستقبل

المغرب اليوم -

المدارس العتيقة المرتبطة بالمستقبل

بقلم : خيرالله خيرالله

عندما يشهد المرء كيف أعيد ترميم مدارس فاس في جامع القرويين، وكيف عادت هذه المدارس العتيقة تعمل، يكتشف أنّ هناك مشروعا حضاريا مستقبليا للملك محمّد السادس يستطيع كلّ عربي ومسلم أن يفتخر به. أكثر من ذلك، يستطيع القول، بكلّ راحة ضمير، إن هناك ربطا بين الأصالة والقيم التي قام عليها الإسلام من جهة، والحداثة من جهة أخرى.

في افتتاح مجموعة من المدارس الموجودة في جامع القرويين الذي يضم جامعة، وهي مدارس من القرنين الثالث عشر والرابع عشر، أمر العاهل المغربي في العام 2013 بإعادة ترميمها من أجل إعادة استخدامها، اختزال لتجربة فريدة من نوعها في المنطقة. تقوم هذه التجربة على لعب دور على صعيد تهيئة علماء دين على أسس متينة ينشرون الدين الحنيف على حقيقته بعيدا عن أيّ نوع من التزمّت ورفض الآخر.

لذلك، لم يقتصر الأمر على إعادة ترميم المدارس وخلق فضاء وأماكن يستطيع الطلاب النوم فيها في ظروف مريحة، بل جرى ترميم متحف فلكي ومدرسة للخطّ. الأهم من ذلك كلّه، أن رجل الدين الذي يتخرّج من المدارس المغربية في فاس وخارجها يمضي سنوات طويلة في الدراسة والبحث، قبل أن يسمح لنفسه بأن يكون خطيب مسجد. يصبح كلامه مبنيا على حقيقة الإسلام وعلى جذوره وليس على معلومات مستقاة من هنا وهناك وهنالك.

يبدو إعادة تعمير مدارس فاس وإعادة استخدامها أقرب من أيّ شيء آخر إلى تذكير بما كانت عليه الحضارة العربية والإسلامية من انفتاح على العلم والعلوم في الماضي وعلى القدرة على الاستمرار في هذا الخط المتطور، متى وجدت إرادة جدّية تعمل بالفعل على قفزة نوعية في التصدي للإرهاب والتطرّف على كلّ المستويات، بدءا بإعداد علماء يمتلكون بالفعل ثقافة إسلامية حقيقية. وهذا ما يفعله المغرب أيضا على المستوى الأفريقي إذ تخرّج معاهده الدينية في كلّ سنة مئات الأئمة من بلدان أفريقية عدة لنشر الإسلام المعتدل في القارة السمراء.

مذهل جمال العمارة في المغرب. مذهل أكثر كيف عمل مهندسون وبنّاؤون من أجل إعادة ترميم المدارس الدينية في فاس والملحقة بجامعة القرويين. هناك مدرسة الصفارين التي شيّدها السلطان أبويوسف يعقوب في العام 1276م، أي قبل سبعمئة وواحد وأربعين سنة بالتمام والكمال.

كانت هذه المدارس التي بدأت جدرانها تتداعى، مهملة. جاء الآن من يذكر بأهميتها وضرورة تفعيل دورها بعد ترميمها. فإلى جانب مدرسة الصفّارين، هناك مدرسة الصهريج التي تقع قرب جامع الأندلس. شيد مدرسة الصفّارين في القرن الرابع ميلادي، السلطان أبوالحسن المريني. هناك مدرسة السبعين (1323م) والمدرسة المصباحية (1347م) والمدرسة المحمّدية والمدرسة البوعنانية التي كانت في الماضي تحمل اسم المتوكلية.

من الملاحظات التي يمكن إيرادها أن الملك محمّد السادس جاء بنفسه إلى فاس للتأكّد من أن عملية ترميم المدارس تمت بدقّة. زار كلّ مدرسة ليشهد شخصيا كيف أنّ الحياة عادت إليها وكيف أن التلامذة وجدوا أماكن لائقة يستطيعون النوم فيها بما يمكّنهم من متابعة الدراسة في أجواء مريحة.

حرص العاهل المغربي على تقليد أوسمة للذين ساهموا في ترميم المدارس. بين هؤلاء مهندسون وبناؤون وعمال عاديون. كان ذلك إشارة أخرى إلى الإصرار على متابعة أي مشروع يجري تنفيذه من جهة، وإلى البعد الإنساني لما تحقّق في فاس من جهة أخرى. فما لا يمكن تجاهله، ليس عمر المدينة والدور الذي لعبته على صعيد المغرب كلّه فحسب، بل إنّ الاهتمام مستمر أيضا بجامع القرويين الذي اشتهر بدوره الثقافي والفكري وباحتضانه جامعة القرويين التي تعتبر من أقدم المراكز العلمية والمؤسسات التربوية في العالم الإسلامي.

هناك تحصين للمغرب بكل الوسائل الممكنة وذلك كي يبقى واحة أمان في المنطقة كلّها. ليس نشر ثقافة التسامح والاعتدال سوى جزء من عملية التحصين والدفاع عن الإسلام الحقيقي في عالم يعاني من عقد كثيرة. من بين هذه العقد عدم فهم الإسلام والخلط بينه وبين التطرف والإرهاب. لذلك، يمكن القول إن رسالة المغرب من خلال ربط الأصالة بالتجدّد هي رسالة تتجاوز المملكة، خصوصا أن هناك معاهد مغربية تستقبل طلاّبا أجانب وتعد خطباء مساجد ينشرون الإسلام كدين متطور يصلح لكلّ عصر.

كان وزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق في غاية الدقّة عندما قال أمام محمّد السادس في الاحتفال الذي أقيم في مكتبة جامع القرويين بمناسبة ترميم المدارس العتيقة “يرى فيكم شعبكم الوفيّ حامل هويته الدينية والثقافية في توافق فريد من نوعه في العالم بين مقتضيات الثوابت الدينية المبنية على التساكن (التعايش)، والتضامن والتسامح وبين الدستور الذي يكفل الحقوق”.

ليس الإصلاح في المغرب إصلاحا سياسيا فحسب، بل هو إصلاح على كلّ المستويات أيضا. هناك بكل بساطة هويّة مغربية ذات أبعاد عدّة أيضا. بين هذه الأبعاد ما هو روحاني وثقافي واجتماعي وحضاري وجمالي في الوقت ذاته.

أبعد من ترميم المدارس العتيقة في فاس وإعادة استخدامها، هناك مشروع سياسي وحضاري متكامل في المغرب. لا شكّ أن المملكة تواجه صعوبات في هذا العالم المعقّد وفي منطقة على فوهة بركان بسبب الأوضاع الداخلية في الجزائر وليبيا وتونس، وبسبب إصرار النظام الجزائري على شنّ حروب بالواسطة على الجار المغربي. ولكن في نهاية المطاف، لا يصحّ إلّا الصحيح… لا لشيء، سوى لأن الاستثمار المغربي الأوّل كان في الإنسان. كان الرهان على الإنسان المغربي في محلّه، خصوصا في فترة استبق الملك ما يريده الشعب وعرض دستورا جديدا على استفتاء شعبي. أدخل هذا الدستور الحياة السياسية في البلد في مرحلة جديدة. فرض في الوقت نفسه على الأحزاب تحمّل مسؤولياتها، بما في ذلك مسؤولية إعداد نفسها لتكون في مستوى ما يريده المواطن العادي وما يطمح إليه. عندما تأخر تشكيل الحكومة، كان لا بدّ من استبدال الشخص المكلّف بتشكيلها مع المحافظة على أن يكون هذا الشخص من الحزب الذي حصل على العدد الأكبر من المقاعد النيابية في الانتخابات.

يتقدّم المغرب من دون التخلي عن الأصالة التي تمثّلها المدارس العتيقة، ومن دون عقد تجاه كلّ ما هو حضاري في العالم القريب أو البعيد. هناك ملك يقلّد أوسمة لرجال دين مسيحيين ويهود في مناسبة “عيد العرش”، وهي مناسبة سنوية، ويستقبل هؤلاء في تلك المناسبة. لا يتردد محمّد السادس في المطالبة بتطوير البرامج التعليمية وإتقان اللغات الأجنبية.

هناك بلد يبني نفسه بعيدا عن المزايدات والشعارات الطنانة التي لا تطعم خبزا. هناك بلد يبني على ماضيه، خصوصا على الجانب المشرق فيه، مثل المدارس العتيقة، من دون أن يتجاهل ما يدور في العالم ومدى ارتباط ما يجري بالثورة التكنولوجية التي ستترك آثارا أكبر بكثير من الثورة الصناعية…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المدارس العتيقة المرتبطة بالمستقبل المدارس العتيقة المرتبطة بالمستقبل



GMT 18:13 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

لا ثقة بحكومة حسّان دياب

GMT 15:45 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

أوراق إيران التي ذبلت

GMT 09:52 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

أكثر من أي وقت… نفتقد نسيب لحّود

GMT 09:43 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

سقوط آخر لبريطانيا

GMT 09:51 2020 الأحد ,02 شباط / فبراير

عندما يهرب لبنان إلى "صفقة القرن"

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 07:02 2020 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

توتنهام "يغازل" بيل للمرة الثانية في أقل من أسبوع

GMT 07:03 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

أمن بني ملال يوقف شخص بتهمة السرقة بالإكراه

GMT 11:29 2020 الأحد ,19 إبريل / نيسان

لبنان ... العائد إلى واقع ما قبل 2005

GMT 16:18 2018 الأحد ,30 كانون الأول / ديسمبر

سعيد عبد الغني

GMT 11:37 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تمتعي بمغامرة لا تُنسى بين معالم جزيرة سريلانكا

GMT 04:59 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

نشوب احتجاجات عدة في إيران عقب مقتل 12 شخصًا

GMT 02:40 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

راغب علامة يعلن صعوبة انتقاء الأغنية الأفضل

GMT 14:02 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رويدا عطية تعتبر ظهورها على شاشة التلفزيون خطوة جريئة

GMT 03:59 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

حكومة تريزا ماي في مأزق جديد بسبب "البريكست"

GMT 10:15 2016 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

ارتفاع عدد قتلى تفجير معسكر زليتن إلى 67 شخصًا

GMT 06:07 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الطقس و الحالة الجوية في انزكان

GMT 05:45 2014 الأربعاء ,13 آب / أغسطس

"Victoria's Secret" لمرأة رومانسية ومثيرة
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya