توفيق بوعشرين
يطفح الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي اليوم بجنون الخطاب الطائفي. تحولنا، بين عشية وضحاها، إلى شيعة وسنة، رافضة ونواصب، أتباع الحسن ومريدو معاوية، مقاتلون مع الحسين وموالون ليزيد… يا إلهي.. ما هذا الجنون؟ اختفت الصراعات السياسية والمصالح والاستراتيجيات الإقليمية والدولية المعقدة خلف الفتنة الطائفية.
لم نعد ندقق في الرهانات السياسية للحرب السعودية الإيرانية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بل فتحنا كتب التاريخ والفقه المقارن والملل والنحل، وصار السني يبحث في عقائد الشيعي بعقلية فقهاء القرون الوسطى، والشيعي يدقق في عقائد السني بمنظار الأقلية المضطهدة تاريخيا، والجميع في حرب تكفير لا نهاية لها…
في المغرب، الذي تحول إلى حديقة خلفية للوهابية منذ ثلاثة عقود على الأقل، جمع الشيخ المغراوي أتباعه في مراكش، وشرع يشحذ أسلحته التقليدية ضد الشيعة الإيرانيين الذين يستهدفون عائشة وعمر وأبا بكر الصديق وعثمان بن عفان، ويقولون بتحريف القرآن… الشيخ المراكشي المعروف بولائه للوهابيين، الذين قدموا له الحماية الكاملة يوم أفتى بزواج الطفلة ابنة التاسعة في المغرب وفر إلى الجزيرة العربية حيث ظل هناك عدة أشهر حتى هدأت العاصفة، ورجع في أعقاب الدعاية للدستور الجديد حيث شارك في الحملة مقابل إعادة تبييض سيرته…
السيد المغراوي يعرف أن الخطاب الطائفي الفج هو السلاح الفعال لتأييد الحرب السعودية على الحوثيين في اليمن، مادام خطاب العقل والسياسة والاستراتيجية والقانون الدولي عاجزا عن إقناع الرأي العام العربي بجدوى حرب لا أفق لها.. حرب ستعقد المشكل ولن تحله، لهذا تحرك المغراوي وفريقه السلفي، كما تحرك دعاة كثيرون في فضائيات الغابة العربية، ليسكبوا المزيد من الزيت على النار، وليردوا على إيران وحزب الله والحشد الشعبي في العراق والعلويين في سوريا، وليرفع الجميع أعلام حروب الفتنة في صدر الإسلام، ويخرجوا أسلحتهم الثقيلة من كتب تاريخ الصراع بين الفرق الإسلامية، ليجعلوا منها أدوات للدعاية وللفتنة وللتفرقة بين المسلمين…
يقول أحد المؤرخين العرب: «علماء السلطان صنفان، جاهل أو طامع»، هذا بالضبط ما ينطبق على رجال الدين الذين يقاتلون اليوم على جبهة الطائفية في المعسكرين السني والشيعي، نصفهم طامع في أعطيات الأنظمة، ونصفهم جاهل يعيد تلحين مفردات الصراع الطائفي الذي لقنته الأجهزة المخابراتية لهؤلاء المشايخ، مستغلة جهلهم وسذاجتهم وتخلف فكرهم الذي يمنعهم من فهم تعقيد المصالح والصراعات في عالم اليوم. فقهاء ودعاة وأنصاف متعلمين لم يعبروا قرون الصراع الطائفي الذي مزق أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، ووضعوا أنفسهم حطبا في وقود حرب ستدمر ما بقي من هذه الأمة…
ليس ضروريا أن يكون العربي طائفيا مذهبيا لينتقد النفوذ الإيراني في الخليج، وليس ضروريا أن نحول الصراع إلى سني-شيعي لكي نرفض تورط حزب الله في الحرب إلى جانب الديكتاتور الأسد، وليس ضروريا أن تكون مذهبيا لترفض سياسة المالكي والعبادي وعصابات الحشد الشعبي ومجرمي عصائب الحق وجيش المهدي وغلاة العلويين في تدمير سوريا، كما أنه ليس ضروريا أن يصير الإيراني شيعيا ليدعم أبناء المذهب في العراق وسوريا واليمن. ثم ما علاقة الإيراني بالصراعات الدائرة بين اليمني ومواطنه اليمني، أو العراقي ومواطنه العراقي، أو اللبناني وأخيه اللبناني؟ المذاهب ليست قوميات عابرة للحدود، والعقائد ليست مبررا لانتهاك سيادة الدول.. هذه حرب مدمرة ستأتي على الأخضر واليابس يا أمة الجهل…
يلعب علماء السلطان ودعاة الفضائيات والظواهر الصوتية لعبة قديمة، وهي إخراج الآراء المتطرفة لكل فرقة، حتى وإن كانت أقلية، حتى وإن كانت منبوذة وسط مذهبها، وتعميمها على كل أتباع المذهب الآخر، فمثلا يخرج السني الوهابي آراء الطائفة الإسماعيلية من كتب التاريخ -وهي طائفة انقرضت تقريبا وعرفت بتطرفها وشذوذ آرائها حتى داخل جمهور الشيعة نفسه- ويحاول تعميم آرائها على كل أتباع المذهب الجعفري، فيصبح الشيعي مشككا في صحة القرآن، متهما عائشة أم المؤمنين بالفاحشة وبما ليس فيها، مكذبا براءتها في القرآن، ومن ثمة يصبح الشيعي كافرا هكذا بجرة قلم، ومن الكفر نذهب مباشرة إلى وجوب قتاله، ولم لا الإبادة الشاملة، أي الحرب الأهلية والتطهير الديني. وفي المقابل، يتجه الشيعي إلى لعبة استغلال آراء الحنابلة، الذين كانوا في صراع سياسي مع الشيعة في العراق في القرون الأولى للإسلام، ومحاولة تعميم آرائهم المتطرفة عن مخالفيهم على جميع السنة، فيصبح القتال هو اللغة المشتركة بين الاثنين.
لقد حول الصراع الطائفي التاريخ إلى عقيدة، والسياسة إلى فقه، وصراع المصالح إلى فتاوى، فأصبح انتقاد الشيعة لبعض الصحابة موجبا للتكفير، وأصبحت مساندة أهل السنة لحكم معاوية موجبة للتكفير، فيما الواقع أن كل هذا خلاف سياسي لا علاقة له بالعقائد، وأن أركان الإسلام الخمسة تجمع السني والشيعي تحت مظلتها الواسعة التي لا يجب بحال أن نضيقها…
يحكي بعض العرب الذين عاشوا في أمريكا أن سنيا وشيعيا يعيشان في ميتشغان اختلفا حول حرب معاوية وعلي، وتحول الخلاف إلى مشادة كلامية، والمشادة إلى عراك بالأيدي وضرب وجرح، فوصلا إلى قسم الشرطة في المدينة الأمريكية التي يعيشان فيها، فسأل الشرطي عن سبب الخلاف فقيل له: «هذا يساند علي، والآخر يساند معاوية»، فسألهما: «من منهما (علي ومعاوية) جمهوري ومن منهما ديمقراطي؟»، فبهت السني والشيعي أمام هذا السؤال من الشرطي الأمريكي، ولما لم يجيبا عن سؤاله قرر استدعاء علي ومعاوية إلى قسم الشرطة لمعرفة تفاصيل النزاع الذي تحول من رأي في السياسة إلى ضرب وجرح…
لم يستوعب الشرطي الأمريكي أن يتصارع مواطنان في القرن الـ21 على مسألة تاريخية مضت عليها 1400 سنة. اعتقد أن أمامه صراعا سياسيا بين مؤيد لمرشح عن الحزب الديمقراطي وآخر مؤيد لمرشح عن الحزب الجمهوري، ولو عرف أن العربيين والمسلمين يتعاركان على الولاء والبراء من صحابيين عاشا وماتا قبل 14 قرنا وزيادة، فربما انتحر الشرطي قبل تحرير المحضر…