لو قدر للراحل عبد الله باها أن يكتب وصيته الأخيرة قبل أن يلتحق بربه، فماذا عساه يقول فيها؟ لا نريد أن نتحدث باسم الموتى وهم في رحاب الله، لكن حياة الرجل العمومي كما وفاته ليست شأنا خاصا، بل هي أمر عام وهذا ما يهمنا هنا بعد الترحم على الراحل وتأبينه…
لو حمل باها القلم وسطر وصيته الأخيرة فأظن أنه سيقول لعبد الإله بنكيران وحزب العدالة والتنمية وللمغاربة ما معناه:
«أيها الأحبة، جازاكم الله خيرا، وتقبل مسعاكم وأنتم تحجون بالآلاف من كل فج عميق إلى مقبرة الشهداء لوداعي فكل نفس ذائقة الموت، أعرف حجم الحزن الذي استقر في نفوسكم لرحيلي، لكنها إرادة الله ولا راد لقدره…
أخي ومهجة روحي السي عبد الإله، لقد تركتك وحيدا بعد رفقة دامت 40 عاما، تقاسمنا فيها الحلو والمر، وكنت توأم روحي، وكنت أخاك الذي لم تلده أمك، لكن البقاء لله. لا تجعل من حادثة وفاتي صدمة كبيرة تنسيك المشروع الذي اجتمعنا عليه، وضحينا من أجله. نحن شموع في هذه الدنيا تذوب من أجل أن تنير الطريق للبلاد وللإصلاح وللأمة وللحق وللعدل، هذا هو المهم.. الباقي تفاصيل صغيرة مهما بدت كبيرة ومفجعة…
أعرف مقدار محبتك لي، وأعرف وقع صدمة رحيلي عليك وعلى أسرتي وحزبي وكل من عرفني أو لم يعرفني، وأعرف أنني كنت مستشارك الأول، ورفيق حياتك، وكاتم أسرارك، وناصحك الأمين، وأنك ما كنت تقطع برأي دون الرجوع إلي، وأعرف أن حياتنا صارت منذ عقود حياة واحدة، ومصيرنا واحد، وطعامنا واحد، وهمومنا واحدة… لكن الحياة تفرق، والموت يفرق، وللقدر الكلمة الأولى والأخيرة، لكن وفاة شخص، أي شخص، لا تعني وفاة القيم والمبادئ والمثل والنهج الذي تربينا عليه، ونذرنا حياتنا ووقتنا وراحتنا وعائلاتنا له ومن أجله.
… سر وإخوانك على نفس الطريق.. طريق الإصلاح الهادئ والناعم، طريق التغيير في ظل الاستقرار، طريق الاعتدال في السياسة، والتشدد في النزاهة ونظافة اليد، طريق بالتي هي أحسن حتى يغلب خيرك شرهم، ووفاؤك غدرهم، ومحبتك بغضهم، واعتدالك تطرفهم، وحسن نيتك سوء نيتهم. الشعب الطيب أمامك يفهمك جيدا، وسيبقى قريبا منك مادمت قريبا منه ومن همومه ومشاغله ومشاعره…
اقفز أخي بنكيران فوق الحفر الكثيرة التي تجدها أمامك بالحكمة والموعظة والصبر وقراءة التاريخ، اترك يدك ممدودة لخصومك، واترك أمامهم الوقت والفرصة ليصححوا أخطاءهم، لا تحشرهم في الزوايا الضيقة فتأخذهم العزة بالإثم، اترك ميزان الذهب دائماً أمامك لتزن به السيئ والأسوأ، ففي السياسة للأسف لا نزن دائماً بين الخير والشر بل نجد أمامنا قرارات فيها السيئ والأسوأ وعليك أن تفاضل بينهما في وقت وجيز وفي ظروف صعبة وإكراهات عديدة. هنا تنبع الحكمة، وهنا تعرف رجاحة العقل وذكاء القرار…
كنت دائماً أقول لكم و لنفسي إن الإصلاح عملية معقدة، وإننا قبل أن نشرع في الإصلاح علينا أن نعرف الفساد وأسبابه ومسبباته، وأن نفحص أدوات الإصلاح وما إذا كانت مناسبة أم لا، صالحة للزمان والمكان أم لا. الحماس مطلوب لكن التريث ضروري…
لقد عشت حياتي القصيرة بينكم أبحث معكم وبكم عن خيوط كثيرة لنسج التوافقات الكبرى وسط الحركة الإسلامية أولا، ووسط الساحة السياسية ثانيا، وفي العلاقة مع القصر ثالثا، لم يخب ظني، ولا خسر مسعاي، وها أنتم اليوم القوة الأولى في البلاد، لكن المهمة مازالت طويلة، الآتي أصعب، والربيع تحول إلى خريف، وقوى الشر في الداخل والخارج كشرت عن أنيابها، فالإنسان قد ينجح في مرحلة الاستضعاف لكنه يفشل في مرحلة القوة والتمكين. بلادنا محتاجة إلى الاستقرار والإصلاح، وإلى التوافق والتغيير، إلى الهدوء والحركة، إلى تجديد النخب وحفظ الذاكرة، إلى تطبيق الدستور ومراعاة المراحل الانتقالية، إلى المصالحة والحقيقة، إلى العدالة والتسامح…
أعرف أن الكثيرين منا ومنهم لا يرون إمكانية نجاح هذه الازدواجية وهذا التوازن، ولا يؤمنون إلا بالأبيض أو الأسود.. من يريد الاستقرار لا يعبأ بالإصلاح، ومن يريد المصالحة لا يقيم وزنا للعدالة، ومن يعتمد البراغماتية لا يلتفت إلى المبادئ، ومن يسعى إلى التوافق ينسى الهدف من التوافق…
هذا العبد الضعيف الذي يوجد الآن بين يدي ربه يزعم أن هناك طريقا ثالثا للتحول الديمقراطي العميق في المملكة، وهذا الطريق بدأت معكم رسم ملامحه وبقي أمامكم إكمال المهمة، فلا تدعوا أي شيء يلهيكم عنها أو يقعدكم عنها أو يشوش عليكم لبلوغها كائنا من كان… ولله الأمر من قبل ومن بعد».