توفيق بوعشرين
قرأت تقرير منظمة ترانسبارنسي الأخير حول الفساد في المغرب، ولم أجد فيه شيئا لا نعرفه، لكن وجدت فيه تحليلا وربطا جديدا بين الفساد والسياسة.. بين هدر المال العام ونظام الحكامة.. بين الانتخابات ونظام الريع.. بين فساد الأحزاب وفبركة المؤتمرات، وتدخل جهات في الدولة في سلامة انتخابات عدد من الأمناء العامين للأحزاب…
ترانسبارنسي الدولية ليست خصما للحكومة، وليست عدوا للمعارضة، لا هي في اليمين ولا هي في اليسار. نعم، عملها وتقاريرها ومنهجية تحليلها تناقش، تنتقد، تراجع، لكن بالمجمل عملها مرآة يمكن أن نرى فيها وجوهنا بعيدا عن البوليميك المنتعش هذه الأيام، ونظرية المؤامرة والتشويش الإعلامي والسياسي الحاصل، والغرض أن نصل بالرأي العام إلى مستوى من الجرأة والوضوح والجدية والنزاهة في نقاش الشأن العام في البلاد…
يقول التقرير: «رغم الإصلاحات المسجلة في سنة 2011، بما في ذلك الدستور الجديد، وصعود حزب إسلامي إلى مقاليد الحكومة، وازدياد الحديث عن محاربة الفساد، لايزال النظام السياسي، حكومة وبرلمانا ومؤسسات الحكامة والأحزاب والشركات والإدارة، بعيدا عن الانخراط في استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد وإقامة عماد النزاهة وحكم القانون».
لماذا لم تستطع البلاد إرساء نظام فعال لمقاومة الفساد ودعم التنمية ونظام الأخلاق العامة واحترام القانون وتنصيب القضاء سلطة مستقلة وجعل القانون فوق الجميع؟
المنظمة الدولية المتخصصة في محاربة الفساد في العالم لا تتردد في الجواب عن هذا السؤال، وتقول إن الإرادة السياسية غير موجودة أو موجودة لكنها ضعيفة ومترددة، هذا أولا. ثانيا، إن تركيبة النظام السياسي لا تساعد على إقرار آلية فعالة وقوية لمحاربة الفساد، وهنا تضرب مثلا بتصريحات رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، الذي يقول علنا إن الملك هو رئيس الدولة، وإن رئيس الحكومة يعتبر نفسه في خدمة رئيسه. هنا تقول المنظمة إن بنكيران يتجاهل الدستور، ويتجاهل المبدأ الديمقراطي العالمي الذي يقول إن من يتحمل المسؤولية يجب أن يحاسب، وحيث لا محاسبة فلا مسؤولية…
كيف نصنع للخروج من هذه الورطة؟
أولا: يجب على السيد بنكيران أن يتوقف من اليوم عن ترديد عبارة: «الملك رئيسي»، التي تنقلها السفارات إلى بلدانها، والمنظمات إلى رؤسائها، والإعلام إلى الرأي العام في الداخل والخارج. يمكن لرئيس الحكومة أن يبعث رسائل التطمينات وحسن النية مع ساعي بريد آخر، وبواسطة رسائل أخرى غير تحوير الهندسة الدستورية، ودون الرجوع إلى الملكية التنفيذية. لا بد من التشبث بالمكتسبات الدستورية الحالية، وبالطبع المؤسساتي للحكم، وبالصيغة البرلمانية التي نسعى إلى تطوير نظامنا عبرها، بعد أن صار الجميع متفقين على أن مستقبل المغرب لا يرسم بعيدا عن النظام الملكي، وأن الجالس على العرش جزء من حل مشاكل البلاد لا العكس…
ثانيا: لا بد أن يجد رئيس الحكومة طريقة وأسلوبا لتفعيل الاختصاصات الدستورية الموكولة إليه بالقانون الأسمى في البلاد، وأن يتعايش مع ملك دينامي فاعل وحريص على مستقبل بلاده ونموها، دون أن نسقط في ملاحظة ترانسبارنسي، أي «ربط المسؤولية بالمحاسبة». بمعنى آخر، يجب على رئيس الحكومة أن يُنزل الدستور في قالب واقعي لكن دون المساس بجوهره. أعرف أن نظامنا السياسي بعد دستور 2011 صار نظاما معقدا وفريدا في كل العالم، حيث أقر ازدواجية السلطة بين الملك ورئيس الحكومة، وأعرف أننا لسنا في إسبانيا ولا في السعودية، وأن المغرب مطالب بإيجاد صيغة انتقالية لتدبير السلطة مع القصر دون تنازع ودون «شد لي نقطع ليك»، لكن في الوقت نفسه دون المس بالطابع الديمقراطي والدستوري والعصري للقرار…
الحل هو ترك الاستراتيجي للملك، بعد الاتفاق عليه مع الحكومة، وإعطاء التدبير اليومي للسلطة التنفيذية.
مثلا، هناك وزير يعد استراتيجية صناعية للبلاد في ظرف 10 سنوات. هذا الوزير يجب أن يقوم بعمله ودراساته وخططه، وأن يعرض الأمر على رئيس الحكومة، وأن يحدد وسائل التنفيذ وزمن الإنجاز، وأن يذهب رئيس الحكومة ووزيره في الصناعة إلى الملك ويناقشا معه الأمر، ويستمعا إلى توجيهاته ونصائحه -لأنه هو باق وهما ذاهبان- ويستمع هو إلى أفكارهما ومبادراتهما وبرامجهما والتزاماتهما مع الناخب، وفي الأخير يتم الاتفاق على المشروع، ويُترك للملك إعلان شقه الاستراتيجي في حفل أو خطاب أو رسالة، باعتبار أن الدستور أعطى الملك دورا في القرار، على أن يترك التنفيذ والمتابعة والإنجاز اليومي للحكومة التي ستحاسب على هذا المشروع. المشكل الذي حدث قبل أيام، ودفع الملك إلى الغضب على وزيرين في الحكومة، وإعلان الإضراب عن تدشين مشروع لم يرقه، يجسد غياب مقاربة الاستراتيجي والتنفيذي في السياسات العمومية بالمغرب، والله أعلم…