عاش واقفا ومات واقفا

عاش واقفا ومات واقفا

المغرب اليوم -

عاش واقفا ومات واقفا

بقلم توفيق بو عشرين

مات أحد أشهر أغنياء المغرب، لكن كتاب حياته سيكون أطول عمرا منه، وسيرته ستبقى واحدة من أكثر القصص إلهاما للجيل القادم.. قصة راعي الغنم الفقير القادم من زمن القحط والاستعمار في الشياظمة، والذي انتهى إلى حجز مقعد له على قائمة فوربيس إلى جانب أغنياء العالم.
رجل بنى نفسه بنفسه، ولم يتسلح باسم عائلة مشهورة، ولا بقرب من السلطة، ولا بشهادة جامعية، ولا بمظلة حزب أو شخصية نافذة، لكي يصل إلى ما انتهى إليه… رجل بنى مجموعة اقتصادية عملاقة ووراءها ثروة كبيرة بالعرق والجد والذكاء الفطري، والصمود والثقة في الله الذي يعطي بلا حدود وينزع بلا قيود.
ميلود الشعبي ليس أول شخصية عصامية تبني ثروة من لا شيء، وليس قصة النجاح الوحيدة في المغرب والعالم العربي، لكنه، بالقطع، نموذج متفرد في خانة رجال الأعمال الشجعان الذين لم تمنعهم جيوبهم من فتح أفواههم، ولا وقفت ثرواتهم أمام صراحتهم، ولا نجحت مصالحهم في زرع الخوف في قلوبهم.. معه سقط الشعار الذي يقول: «الرأسمال جبان»، وإليكم واحدة من القصص الأخيرة التي كلفت الملياردير المغربي الكثير لكنه لم يندم على شيء مما تركه فيها من جلد حي:
في 2008، أعطى استجوابا ناريا لمجلة «لوجورنال»، وانتهى فيه بإعطاء نصيحة للقائمين على تدبير ثروة القصر بضرورة أخذ مسافة معقولة إزاء «البزنس» ومشاكله وتعقيداته مخافة الخلط بين الثروة والسلطة، بين الاقتصاد والحكم. وبعفويته وصراحته قال ما كان يفكر فيه الكثيرون ولا يستطيعون فتح أفواههم به.
ما إن خرج كلام الشعبي أسود فوق أبيض حتى زلزلت الأرض تحت قدمي الملياردير المتمرد، وتطوع «أصحاب الحسنات» فزادوا من تأويل كلام الشعبي ليصير مبررا وحجة لإطلاق النار عليه وإعدامه في باب الحد… وقف الشعبي وسط العاصفة ثابتا محتسبا عارفا بما ينتظره، فقد علمته الحياة وخلافاته مع الحسن الثاني وإدريس البصري أن عصا السلطة عندما تنزل فهي تضرب بقوة.
نصحه كثيرون بتكذيب ما جاء في المجلة تحت مبرر أن كلامه لم ينقل بدقة، كما يفعل السياسيون المناورون عادة، فرفض وقال: «لا أستطيع أن أهرب من كلمة الحق، وألقي بالمشاكل على ظهر صحافي قام بعمله، وحتى ولو نقل عني ما لم أقله بدقة فلا أعرض شخصا للخطر وأرجع إلى الوراء»، ثم جاءه إدريس جطو، الوزير الأول السابق، يعرض نقل رسالة استعطاف منه إلى القصر يشرح فيها الشعبي حقيقة موقفه، ويعتذر عما بدر منه، فرد الشعبي على جطو، وقد كانت له مكانة خاصة في قلبه (أنقل هنا من حديث طويل للشعبي مع كاتب هذه السطور): «قلت لجطو -يحكي الشعبي رحمه الله- إذا كتبت رسالة أشرح فيها المقصود فلن أضيف إليها أكثر مما قلته في الاستجواب مع المجلة. أنا رجل يعرف قيمة الاستقرار في بلده، ويعرف دور الملكية في هذا الاستقرار، وقد كنت من بين المغاربة الذين اعتقلوا زمن الاستعمار وعذبوا لأنهم ناضلوا من أجل عودة محمد الخامس من منفاه، ورفضوا إزاحته عن عرش أسلافه، فأنا واحد كذلك ممن ساهموا في بناء اقتصاد المغرب، وممن وظفوا الآلاف من الشباب في المملكة وخارجها، وأنا من القلائل الذين صنعوا ثرواتهم بعيدا عن رعاية السلطة، بل في كثير من الأحيان ضدا عليها»، ويواصل الشعبي المرافعة دفاعا عن نفسه قائلا: «أما حكاية الاعتذار، فإنها خارج الموضوع لأني عشت في كنف ثلاثة ملوك، وأعرف حدود الاحترام الواجب لهم، وأعرف الحاجة إلى قول الحقيقة لهم في الأوقات الصعبة حين يلوذ الآخرون بالصمت»، وقال لجطو، في ما رواه لي الشعبي في جلسات حوار امتدت إلى ساعات طويلة: «السي إدريس، لماذا نتعب ونكد ونسهر من أجل تنمية الثروة وكسب المال؟ أليس من أجل أن نحفظ كرامتنا ونبقي رؤوسنا مرفوعة؟ فكيف يصير المال والثروة والشركات مدعاة لكي نطأطئ رؤوسنا؟ الله جل جلاله هو الذي يغني وهو الذي يفقر، وإذا كتب الله لي أن أموت كما ولدت فقيرا معوزا فلا اعتراض لي على ذلك». 
تعرض الشعبي بعد الذي جرى لعقاب كبير، بدأ بمنع التراخيص الإدارية عن مشاريعه، وانتهى بزج اسمه في قضية «الودغيري وبوفتاس»، فوجد نفسه، وقد بلغ الثمانين، أمام قاضي التحقيق سرحان يخضع للعبة سين جيم… شعر الشعبي بالإهانة، وغضب من سلطة أوقفت عشرات المشاريع المدرة للدخل والضريبة والشغل، وحرمت آلاف الشباب من العمل وكسب الرزق فقط لتنتقم من شخص واحد، ومن جملة قيلت هنا وتصريح قيل هناك.. خسر الشعبي ملايير الدراهم في هذه المعركة التي دخلها وهو على حافة الغروب، وأصبح مقلا في الظهور الإعلامي ولاذ بالصمت… عندما أطل الربيع العربي برأسه على المغرب، نزل إلى الشارع يساند شبابا في عمر أحفاده خرجوا يطلبون الإصلاح.
سيدفن جثمان الرجل تحت التراب، أما سيرته فستبقى فوق الأرض للدرس والعبرة بما لها وما عليها، لكن الشعبي نجح في ما فشل فيه الكثير من الأغنياء الذين بنوا أسماءهم بالدرهم والدولار، وولدوا وماتوا وهم يبتعدون عن السياسة ويتقربون من السلطة.. عاشوا وماتوا بلا رأي ولا لسان ولا قدرة على قول لا.. أعطوا من كرامتهم لتزداد ثروتهم… الشعبي كان المال في يده وليس في قلبه، وقبل أن يموت ترك هبات كثيرة لمدارس ومساجد وجامعة أمريكية عريقة وهبها 10٪‏ من ثروته لكي تزرع شجرتها في المغرب، ولتعطي ثمارها للأجيال المقبلة، خاصة المتفوقين من تلاميذ الفقراء… قال لي يوما: «هل تعرف أنني لم أستعطف أحدا إلا مرة واحدة؟»، قلت، كمن عثر على شيء نادر: «من هذا الذي استعطفه الشعبي المعتد دائما بنفسه؟»، قال: «مدير البعثة الفرنسية في الدار البيضاء الذي رجوته أن يدخل أبنائي إلى المدرسة الفرنسية بعدما طردهم أوفقير من المدرسة المغربية بالقنيطرة لدفعي إلى مغادرة البلاد».. عاش واقفا ومات واقفا كما الأشجار الشامخة.. رحمك الله.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عاش واقفا ومات واقفا عاش واقفا ومات واقفا



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 05:15 2018 الأربعاء ,25 تموز / يوليو

واتساب يضيف ميزة نالت إعجاب مستخدميه

GMT 02:06 2018 الخميس ,12 تموز / يوليو

سعر ومواصفات "كيا سبورتاج 2019" في السعودية

GMT 23:49 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

وفاة أب وإبنته غرقا في نهر ضواحي جرسيف‎

GMT 23:59 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

معلول يؤكد أهمية فوز المنتخب التونسي على بنما
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya