رجل السياسة الكبير لا يلبس القفازات

رجل السياسة الكبير لا يلبس القفازات

المغرب اليوم -

رجل السياسة الكبير لا يلبس القفازات

توفيق بو عشرين

هناك تمرين إعلامي وسياسي تقوم به الصحف والمجلات مع نهاية كل سنة، فتعمد إلى اختيار شخصية مؤثرة سلبا أو إيجاباً في الـ12 شهرا الماضية، فتختارها لغلاف المجلة أو واجهة الصحيفة باعتبارها شخصية السنة، في محاولة لتجميع أكبر قدر من الضوء حول هذه الشخصية…

هنا لن نختار شخصية السنة.. سنختار قرار السنة، ولن نجازف إذا قلنا إن قرار رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، رفع الدعم عن المحروقات، الذي سيدخل حيز التنفيذ غدا، كان هو القرار السياسي والاقتصادي الأكثر جرأة وشجاعة وبعد نظر خلال السنة الماضية. لماذا؟

الدعم العمومي المباشر مثل فخ إذا دخله الإنسان لن يخرج منه سالما مهما فعل، وهذا بالضبط ما وقع في المغرب منذ سنوات عديدة، حيث وصلت ميزانية دعم المحروقات إلى 56 مليار درهم، أي أكثر من ربع مداخيل الدولة الضريبية، والمشكل أن هذا الرقم الضخم لم يكن يذهب إلى جيوب الفقراء، بل كان يصب في طاحونة الأغنياء، وهم بالترتيب كالتالي: شركات المحروقات التي تستورد البترول والغاز والغازوال والفيول الصناعي، وتبعث الفواتير إلى صندوق المقاصة، وتأخذ ما شاءت من هذا الصندوق الذي كان بلا قفل ولا حارس ولا جهاز مراقبة. ثاني أكبر المستفيدين من سياسة الدعم هم المعامل والشركات التي تستعمل الفيول المدعم في الصناعة أو استخراج الكهرباء، وهؤلاء كانوا يستهلكون بلا حساب لأن هناك من يدفع بدلا منهم. وثالث طرف كان يستفيد من دعم المحروقات هم الأغنياء الذين يستعملون السيارات الفاخرة التي تستهلك عشرات اللترات من المحروقات، ويستعملون الكمية الأكبر من الكهرباء المدعومة هي الأخرى. ثم تأتي في الأخير الفئات الوسطى التي تمتلك سيارات اقتصادية، لكن هؤلاء لا تدفع لهم الدولة من صندوق المقاصة سوى خمسة دراهم في اليوم، أي أقل من 10 في المائة من الدعم، فيما 90 في المائة كانت تذهب إلى جيوب الأغنياء، شركات وأفرادا. إذن، 56 مليار درهم من الدعم كانت تخرج باسم الفقراء لكنها تنتهي في حسابات الأغنياء، وهذه أكبر خدعة اقتصادية كنا نعيشها دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

الجميع كان يعرف هذا الوضع الكارثي منذ مجيء حكومة اليوسفي مرورا بحكومة جطو وصولا إلى حكومة الفاسي، لكن بنكيران كان أكثرهم جرأة في اتخاذ قرار رفع الدعم، والذي لم يكن سهلا إطلاقا، خاصة أن أطرافا في الحكومة الأولى كانت تعارض هذا الإجراء، وتعتبر أن ما يدفعه المغرب من مليارات لصندوق المقاصة هو ضريبة السلم الاجتماعي. كان هذا هو موقف حزب الاستقلال الرسمي والمعلن… هذا الإصلاح الذي سيبدأ بعد 24 ساعة تأخر 11 سنة على الأقل، حيث كان على حكومة جطو شبه التقنوقراطية أن تتخذه لأنها متحررة نسبيا من ضغوطات الأجندات الانتخابية، ومن الخطاب الشعبوي، لكن جطو لم يأخذ هذا القرار، ومقابل هذا التأخر خسرت مالية المغرب مليارات الدولارات كان يمكن أن تذهب إلى الاستثمار في البنيات التحتية وفي إصلاح الأعطاب الاجتماعية…

لو كان بنكيران يحسب السياسة بالعملة الانتخابية لما أقدم على قرار مثل هذا، ولا عمد إلى الاكتفاء بالمقايسة، وعدم المخاطرة بتحرير القطاع كليا، والخروج من فخ الدعم ومواجهة الحيتان الكبيرة التي شنت عليه حملة إعلامية وسياسية كبيرة، لأنه مس عصب المصالح الكبرى وقلاع الريع الحصينة… لكنه تحمل المسؤولية وحكومته بجرأة تستحق التنويه… 

أين ذهبت 28 مليار درهم التي ربحناها سنة 2014 من صندوق الدعم؟ 20 مليار درهم ذهبت إلى تغطية العجز الذي نزل من 7.3 في المائة سنة 2012 إلى 4.9 في المائة سنة 2014، وأربعة مليارات درهم ذهبت كزيادة في ميزانية الاستثمار العمومي، وأربعة مليارات درهم ذهبت إلى كتلة الأجور التي تزيد بأكثر من أربعة مليارات درهم كل سنة… والباقي سيغطي تكلفة المساعدات الاجتماعية التي ستعطى نقدا للأرامل والمطلقات والتغطية الصحية للطلبة…

لقد خلف قرار رفع الدعم عن المحروقات ضجة كبيرة وانتقادات لاذعة، حتى إن شباط، رجل الضوضاء والشعبوية في المغرب، لقب بنكيران ببنزيدان، وأخرج عدة أكاذيب من قبعته، مثل الزيادة في سعر قنينات الغاز، أو تخفيض وزن هذه القنينات، وكل هذا بغرض إثارة مشاعر الفقراء، لكن العقلاء فهموا أن هذا قرار حكيم وتاريخي ربحت منه البلاد المليارات من الدراهم. بقي الآن الجزء الثاني من الدعم المخصص لغاز البوطان والسكر والدقيق، فلا بد من البحث عن طريقة لإبقاء الدعم للفقراء، ودفع الأغنياء إلى أداء ما يستهلكونه بسعر السوق. للإنصاف، بنكيران وجد إلى جانبه الملك الذي شجعه على الذهاب إلى هذا الإصلاح الكبير…

ليس مطلوبا من السياسيين أن يلبسوا القفازات قبل الدخول إلى مطبخ القرار السياسي، ورجل الدولة هو الذي يضع يده في الملفات الحارقة، ولا يخرج من المطبخ إلا بعد أن يترك جزءا من جلده هناك. قد يخسر الانتخابات، وقد لا يفهمه الناس، لكن التاريخ سينصفه ولو بعد حين…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رجل السياسة الكبير لا يلبس القفازات رجل السياسة الكبير لا يلبس القفازات



GMT 19:41 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

الاهتمام بلبنان في ظلّ إعادة تأسيسنا صاروخيّاً!

GMT 19:39 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثية الكويت

GMT 19:36 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة لجنة التحقيق!

GMT 19:35 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

فكرة بديلة فى الرى!

GMT 19:32 2021 الجمعة ,08 كانون الثاني / يناير

ما نعرفه حتى الآن

GMT 12:34 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

الشخصية اللبنانية كمزحة

GMT 12:32 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟

GMT 12:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

ارفع معنوياتك!

لتستوحي منها ما يُلائم ذوقك واختياراتك في مناسباتك المُختلفة

تعرّفي على أجمل إطلالات نيللي كريم الفخمة خلال 2020

القاهرة - ليبيا اليوم

GMT 11:14 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج القوس

GMT 15:51 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 تشرين الأول / أكتوبر لبرج العذراء

GMT 11:04 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم الإثنين 9 تشرين الثاني / نوفمير لبرج العذراء

GMT 00:58 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

دراسة تحدّد الأطفال الأكثر عرضة لخطر السكري من النوع الثاني

GMT 19:55 2019 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

رشيد دلال مساعدا للكيسر في تدريب أولمبيك آسفي

GMT 05:10 2016 السبت ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران تستضيف أعمال الفن العربي الحديث في متاحفها

GMT 07:35 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

غوايدو يدعو الفنزويليين للاحتجاجات ضد مادورو

GMT 17:50 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وهبي يراسل وزير الصحة بشأن غياب دواء مرضى السرطان
 
libyatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

libyatoday libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday libyatoday libyatoday
libyatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya