الفوضى غير الخلاقة
خوضع الوسيط الأممي المغربي، جمال بنعمر، مفاتيح اليمن غير السعيد في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، وذهب إلى بيته.. لا شغل لوسيط سلام عندما تشتعل نيران الحرب.
اليمن وضع الرجل الأولى على طريق الحرب الأهلية، والمنتصر الأول الآن، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، هو تنظيم القاعدة الذي استغل الفراغ السياسي والفوضى الأمنية وخلط الأوراق ليسيطر على مساحات واسعة من البلاد، ويستعد للمعارك المقبلة…
الحرب الجديدة بين إيران والعرب في سماء اليمن لا تخرج عن قاعدة الحروب: «أول ما يسقط من الضحايا في الحرب هي الحقيقة»، والحقيقة التي سقطت حتى قبل تحليق الطائرات السعودية في الأجواء اليمنية هي التقاء موضوعي للمصالح بين الثورة المضادة، التي قادتها دول الخليج ضد الربيع العربي وشبابه، والطموحات التوسعية الإيرانية في البطن العربي الرخو.. هذه هي الخلفية الحقيقية للمشهد الذي نراه اليوم في اليمن.. كيف ذلك؟
ما نراه اليوم في اليمن من تفكك للدولة وانزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية، وسيطرة الفصيل الحوثي الذي كان مهمشا لعقود ولم يجد من رعاية سوى في طهران.. ما نشهده الآن من فوضى غير خلاقة هو نتيجة طبيعية لكل المؤامرات التي حيكت حول الثورة اليمنية وحراك شبابها. إن الحرب التي تأكل الأخضر واليابس الآن ولدت من رحم الخوف الخليجي من التحول الديمقراطي في اليمن، والحوثي ما كان يستطيع أن يسيطر على مفاصل الدولة لولا أنه وجد أمامه فراغا سياسيا مهولا، وعلي عبد الله صالح ما كان سيتجرأ على تقويض أسس العملية السياسية لو لم يرَ خوف السعودية من الإخوان المسلمين ومن حزب الإصلاح، واستعداد الرياض للقبول بأي شيء غير عملية سياسية مفتوحة على أفق ديمقراطي فيه تداول على السلطة، وبذور بناء دولة حديثة في بلاد القبيلة والعشيرة لهما اليد الطولى فيها…
لو وقفت دول الخليج على الحياد إزاء الحراك الشبابي في اليمن، واقتنعت بأن العملية السياسية، التي انطلقت بعد ترنح نظام علي عبد الله صالح، هي الوصفة الوحيدة للحفاظ على ما تبقى من معالم الدولة في اليمن.. لو قرأت القيادات الخليجية الصورة جيدا، لما اضطرت إلى خوض حرب كبيرة ومكلفة وخطيرة في اليمن من أجل فك سيطرة الحوثي على الدولة، وتوقيف التمدد والهيمنة الإيرانيين هناك. الحرب، كما قال الاستراتيجي الألماني مترنيخ، هي استمرار للدبلوماسية بطريقة أخرى، وهذا معناه أن الحرب تخدم رؤية سياسية واستراتيجية وليست نيرانا وصواريخ وانفجارات وقتلى ودمارا…
الحرب هي آخر ما يلجأ إليه السياسي عندما يقف عاجزا عن الدفاع عن مصالحه، لكن وهو يركب قطار الحرب، فإنه يضع لها سقفا وحدودا وشروطا، حتى يفتح أمام خصمه إمكانية التراجع والتفاوض والحلول الوسطى، سواء انتصر أم انهزم… لقد مرت أسابيع على بداية عاصفة الحزم على معاقل الحوثي وعلي عبد الله صالح من الجو، وإلى الآن ليس هناك سقف لهذه الحرب، ولا توجيه استراتيجي للطائرات التي تقصف من الجو… هل غرضها إجبار أنصار الله على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد مع خصومهم؟ كيف؟ ومتى؟ وماذا يوجد فوق الطاولة؟ أم الغرض هو نزع أسلحة الحوثيين وبقايا الجيش الذي يقاتل معهم؟ وهل هذا ممكن في بلاد فيها من قطع السلاح أكثر من عدد السكان؟ هل الهدف هو تشجيع القبائل على التمرد على أنصار الله، وتحريك السلاح الموجود بين أيدي هذه القبائل؟ إذن هي الحرب الأهلية التي لن يتحكم فيها أحد بعد أن تخرج من معاقلها؟ وماذا لو انزلقت الأمور نحو حرب أهلية وطائفية موجودة كل توابلها الآن في الطنجرة اليمنية الحارقة؟ هل تفكيك اليمن هو الحل؟
السعودية في مأزق كبير.. الحرب لا يمكن أن تُحسم من الجو. أمريكا لكي تحتل العراق أنزلت 150 ألف جندي على الأرض، ولما احتلت العراق لمدة 10 سنوات وغادرته، عادت داعش وسيطرت على ثلث البلاد. المشكل الأكثر تعقيدا أن السعودية إن انتصرت على الحوثي ستجد نفسها وقد قوت حزب الإصلاح الإخواني، وإن فشلت في مهامها فإن نفوذ إيران سيتوطد أكثر.
الحل هو إعادة النظر في الموقف الخليجي، والسعودي تحديدا، من الربيع العربي، وإعادة تقييم القرارات الخطيرة التي اتُخذت من قبل إزاء تمويل الثورات المضادة، والرهان على عودة العسكر إلى الحكم تحت مبرر الخوف من الإخوان المسلمين وطموحاتهم العالمية. هذا الخيار كانت له نتائج كارثية، وأهمها توريط المملكة في حرب معقدة على حدودها.. الحل هو الجلوس للتفاوض مع إيران، كما فعلت أمريكا، والضغط عليها سياسيا من أجل إقناعها بأن مصالحها مع الدول القائمة لا مع الجماعات الدينية التابعة أو القريبة منها.