توفيق بو عشرين
قدم رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وصفته لدعم الاستثمار ومناخ الأعمال وتحسين المالية العمومية، وذلك بمناسبة وقوفه أمام مجلس المستشارين كل شهر.
بنكيران جاء إلى البرلمان وهو مرتاح، أولا، لأن المعارضة أمامه «مهلوكة» بانقساماتها وعدم توفرها على بديل جدي للسياسات المتبعة إلى الآن، وهي لا تقدر على أكثر من افتعال البوليميك الفارغ من أي مضمون سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. ثانيا، بنكيران مرتاح لأنه استطاع أن يوفر للخزينة العامة أكثر من 80 مليار درهم في سنتين كانت تذهب إلى دعم المحروقات من صندوق المقاصة، ويعتقد أن هذا يعزز موقعه في قلب الدولة العميقة كشريك في الحكم. ثالثا، بنكيران جاء إلى مجلس المستشارين، المنتهية صلاحيته منذ ثلاث سنوات، وهو مرتاح لأن المطر الذي تساقط بغزارة يبشر بسنة فلاحية ممتازة، وهذا ما يحدث الفارق كل سنة في نسب النمو في بلد يعيش على رحمة السماء وأسعار البترول ونسب تدفق السياح وأسعار الفوسفاط وتحويلات المهاجرين المقيمين في الخارج، أي أن مفاتيح اقتصاده ليست بين يديه.
مع ذلك فإن بنكيران إلى الآن يرقع المالية العمومية ولا يصلحها، ويحاول أن يسعف المريض (الاقتصاد الوطني) ولا يعالجه (الإسعاف مهم في حالة الخطر والاستعجال لكنه لا يغني عن العلاج الحقيقي الذي يذهب إلى أصل المرض، فيجري عمليات جراحية أو كيماوية أو إشعاعية لاستئصال المرض من جذوره). هنا نضرب أمثلة سريعة على أعطاب الاقتصاد الوطني التي تمنع البلاد من أن تتموقع في صفوف الدول الصاعدة، مثل تركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرها من الدول التي تمشي حثيثا نحو الخروج من التخلف نحو التقدم.
أولا: هناك معضلة الإصلاح السياسي الذي يعطل الإصلاح الاقتصادي. الرأسمالية الاقتصادية لا تعيش دون ليبرالية سياسية، واقتصاد السوق لا يمشي دون ديمقراطية حقيقية، سأعطي مثالا عن هذا الترابط.. اليوم الانتخابات لا تمر في أجواء سليمة لأن جهات في الدولة لا تريد لصندوق الاقتراع أن يقول كلمته النهائية. يريدون تهيئة النتائج قبل إجراء الانتخابات، والسبيل إلى هذه العملية المقلوبة هو استعمال المال، وإضعاف المنتخبين والحد من الجهوية، ومن قوة النخب المحلية، وترك المدن تحت وصاية الإدارة الترابية، من أين سيأتي المال لشراء الأصوات؟ سيأتي من الفساد المالي الذي تجنيه التماسيح والعفاريت من التلاعب في الصفقات العمومية، ومن اختلالات التعمير، وعن طريق خدمة اللوبيات على حساب الاقتصاد الوطني والمصلحة العامة. إذن، النهوض بالاقتصاد يتطلب النهوض بالديمقراطية والحكامة ومحاربة الفساد، وإنهاء سياسة اللاعقاب، وهذه معركة لم يدخلها بنكيران بعد.
ثانيا: منذ عقود والنموذج الاقتصادي الذي نمشي عليه وهو اقتصاد الخدمات بعد أن فشل اقتصاد الفلاحة، واقتصاد الخدمات يعتمد على السياحة والعقار وعلى الاستيراد وعلى الأبناك والتأمينات، وكل هذه القطاعات هشة ولا تؤمن فرص شغل كثيرة، وهي مرتبطة بتقلبات السوق الدولي، ولا تخلق قيمة مضافة كبيرة… أما الصناعة التي تحدث قيمة مضافة وتحقق التوازن بين الاستيراد والتصدير، وتؤسس بنية صلبة للاقتصاد والبحث العلمي، وتشغل اليد العاملة أكثر وتتوجه نحو التصدير ونحو تغطية الحاجيات الداخلية.. هذا النموذج تخلينا عنه تماماً، وفككنا ما كان موجودا منه، واعتمدنا كليا على الصين وأوروبا وأمريكا وكوريا والدول الصناعية الكبرى، وأصبحنا نحن متخصصين في الاستهلاك وبيع الفوسفاط والسمك والنسيج والبحث عن المساعدات الدولية المشروطة…
العودة إلى التصنيع اليوم ليست شعارا، بل يجب أن تكون خيارا مدعوما بسياسة احترازية في أبواب الجمارك لحماية الصناعة الوليدة، وهذا يتطلب قوة كبيرة للتصدي للشركات الكبرى وعقيدة العولمة، وسياسة جبائية في وزارة المالية لدعم الرأسمال الذي سيختار الاستثمار في الصناعة عوض أن يستثمر في العقار الذي يصل هامش الربح فيه إلى 60٪ وأكثر، والتصنيع يحتاج إلى سياسة جديدة مع القطاع الخاص «المدلل»، وإذا عجز هذا الأخير عن ركوب قطار الصناعة يجب على الدولة، عن طريق صندوق الإيداع والتدبير والشركات العمومية، أن تعطي انطلاقة حقيقية لمسلسل التصنيع بالمغرب، لهذا وجدت CDG قبل أن تغرق في بناء الفنادق والكازينوهات والمارينات، وأشياء أخرى بعيدة عن الهدف الذي أحدثت من أجله.
ثالثا: لا بد من إصلاح عميق للإدارة التي أصبحت حجرا في حذاء البلد، إذا تحرك آلمه، وإذا بقي واقفا ضايقه. جيش الموظفين يأكل 140 مليار درهم من مداخيل الدولة (أكثر من ثلثي المداخيل الضريبية)، في الوقت الذي لا نحتاج إلا إلى نصف هذا الجيش الجرار الذي لا يقوم جله بمهامه، ولا يساعد على التنمية وخدمة المواطن. لا بد من تطليق النموذج الفرانكفوني في الإدارة البيروقراطية، والاتجاه نحو النموذج الأنجلوسكسوني المعدل وفق حاجياتنا. على الدولة أن ترسم ثلاث دوائر للإدارة وللموظف العمومي. الدائرة الأولى هي القطاعات السيادية (الجيش، الأمن، القضاء) هؤلاء لا غنى عنهم. الدائرة الثانية دائرة القطاعات الاستراتيجية (مثل التعليم الصحة…)، هذه يجب مراقبتها والمزاوجة فيها بين القطاعين العام والخاص. الدائرة الثالثة هي دائرة الخدمات الإدارية الأخرى، وهذه يجب أن توكل إلى القطاع الخاص كليا عن طريق وكالات متخصصة تشغل الناس بعقود مؤقتة حسب الظروف والأحوال والحاجة، وتبقى الدولة في منصة التقنين والمراقبة… يمكننا بـ70 مليار درهم أن نحصل على خدمات أفضل وأحسن في إدارة حديثة إلكترونية وخفيفة وتشاركية ومرنة فيها القطاع العام والخاص والمختلط..
طبعا هذه الخيارات تحتاج إلى جرأة كبيرة، وإلى حكومة قوية، وإلى إرادة سياسية لجعل تقدم البلد هو الهدف الأسمى.