بقلم : توفيق بو عشرين
قدم الملك محمد السادس، في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، مرافعتين؛ الأولى حول إفريقيا وضرورة تحررها من الاستعمار الجديد، والثانية حول اعتدال الإسلام وانفتاحه، وضرورة مقاومة الجميع للإرهاب وفكره المتطرف.
عن إفريقيا، أعاد الجالس على العرش تأكيد توجه المملكة الاستراتيجي نحو الانفتاح على القارة السمراء، والعودة إلى لعب دور مركزي بين دولها التي تعاني عدم الاستقرار والتخلف والفقر والتهميش والصراعات الداخلية، ورد الملك كل هذه العاهات التي تضرب إفريقيا إلى الإرث الاستعماري الذي سعى إلى تقسيم القارة واستغلال خيراتها وتأبيد تخلفها، وهي ثالث أو رابع مرة يتوجه فيها الملك المغربي، المعروف بصداقته للغرب وتعاونه معه، إلى نقد حلفائه، وتذكيرهم بالصفحات السوداء لتاريخهم الاستعماري في المنطقة، وخاصة فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال… هذا النقد الشديد للاستعمار وبقاياه يلقى آذانا صاغية في إفريقيا التي تستيقظ اليوم من نوم عميق، لأن تقريع الغرب وتحميله كل المسؤولية عن الواقع المرير للقارة السمراء أصبح إيديولوجيا محلية، وفي بعض الأحيان مشجبا يعلق عليه القادة الأفارقة عجز واستبداد وفساد بعضهم، وعدم قدرتهم على النهوض بدولهم رغم ثقل الإرث الذي خلفه الرجل الأبيض هناك… لهذا، يجب الالتفات أيضا إلى نقد الذات الإفريقية، ونخب ما بعد الاستعمار التي كانت تتسابق إلى الإذاعات والتلفزات لقراءة بلاغات الانقلابات العسكرية التي دمرت جل بلدان القارة.
يبدو الملك محمد السادس عازما على تجذير هذا الخيار الدبلوماسي للمغرب، ولهذا رجع إلى مقعده الفارغ في الاتحاد الإفريقي، رغم المرارة التي مازالت في حلقه من قبول الجمهورية الصحراوية، المعلنة من طرف واحد على التراب الجزائري، عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية، فالمغرب فهم أن الاتحاد المغاربي مات ولم يدفن بعد، وأن جامعة الدول العربية لم يعد يجمع بين أعضائها سوى لغة الضاد، وأن الاتحاد الأوروبي غارق في مشاكله وأزماته، ومجتمعاته تزداد انغلاقا إزاء الجنوب سنة بعد أخرى، وهذا الاتحاد الغني صار أشبه بنادٍ مغلق غير مهتم سوى بالمخاطر الآتية من الجنوب، ولا يرى الأحلام المنبعثة من هذه الرقعة الجغرافية الضائعة. إذن، لم يبق أمام المغرب سوى التوجه إلى مجاله الحيوي والطبيعي، إفريقيا، لكن هذا الخيار ليس نزهة على شواطئ وخلجان وأنهار القارة السمراء، وهذه الأخيرة ليست قطعة حلوى ستخترقها سكين الدبلوماسية المغربية بسهولة. إعادة الانتشار المغربي في إفريقيا تتطلب خطة عملية تترجم الرؤية الاستراتيجية، وإطارا بشريا مؤهلا، وإدارة حديثة تتابع الملفات المفتوحة والمبادرات الفوقية، وقطاعا خاصا ذكيا ومتحررا من عقلية «الهمزة». إلى الآن مازال وجود المغرب في إفريقيا مقتصرا على دول قليلة فرانكفونية وعربية، جلها لا يمثل ثقلا كبيرا في القارة. هذا ورش مفتوح، ويجب على الحكومة المقبلة أن تترجم توجهاته بالمال المرصود للدبلوماسية، والاتفاقيات الموقعة مع دول إفريقية جديدة، والرفع من حجم التصدير والاستيراد من وإلى القارة الإفريقية.
وجه الملك محمد السادس نقدا لاذعا إلى التطرف السلفي في نسخته الداعشية التي تتغذى على النص المؤسس لها (السلفية الوهابية)، وتحدث محمد السادس بلسان إمارة المؤمنين التي يحمل قبعتها إلى جانب مهامه السياسية، واعتبر أن التطرف والجهل بالقيم السمحة للدين جهالة وكفر معاده النار، وأن على جميع أتباع الديانات الثلاث أن يتوحدوا لمواجهة الإرهاب والتطرف والانغلاق، وقال: «الحضارة الإنسانية حافلة بالنماذج الناجحة التي تؤكد أن التفاعل والتعايش بين الديانات يعطي مجتمعات حضارية منفتحة تسودها المحبة والوئام والرخاء والازدهار، وهو ما جسدته الحضارات الإسلامية، وخاصة ببغداد والأندلس، والتي كانت من أكبر الحضارات الإنسانية تقدما وانفتاحا».
إن مبدأ الحفاظ على التنوع الديني والعرقي واللغوي والثقافي في المجتمعات القديمة والحديثة ليس، فقط، مسألة تسامح أو قبول بالآخر، بل هو ضرورة للأغلبية قبل الأقلية. إنه عنصر توازن قيمي وديني يمنع التطرف والغُلو والإقصاء الذي يبدأ بالآخر الديني، ثم يتحول إلى الذات في احتراب داخلي مدمر، لهذا، كان المسيحيون أول من استهدفت داعش في العراق، ثم التفتت إلى المسلمين الشيعة، ثم انتقلت إلى المسلمين السنة، ثم انتهت بمحاربة حتى متطرفي القاعدة وأخواتها، حيث يشتركان معا في الجينات الفكرية والإيديولوجية نفسها… لكن ما يكمل هذا المقطع المهم في الخطاب الملكي هو الحديث عن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يكبر فيها التطرف وينمو، ويجد له أتباعا بسهولة كبيرة، ليس لأنهم يجهلون العربية، أو لا يعرفون قيم الدين، ولكن لأنهم غاضبون من واقعهم، يائسون من مستقبلهم، يعيشون في مجتمعات تغيب فيها الحرية (البلدان العربية)، أو يعيشون في بلدان غير قادرة على إدماجهم (أوربا)، فيتحولون إلى راديكاليين أصوليين يبحثون عن سلاح دمار شامل لهم ولمجتمعاتهم، وليسوا أصوليين راديكاليين قادهم الانغلاق الفكري والتطرف الديني إلى إعلان الجهاد على العالم… هناك فرق بين الاثنين.. البواعث في الفئة الأولى سياسية واقتصادية، وفي الثانية دينية وإيديولوجية، وهذا واضح في تتبع بروفايلات الجهاديين الجدد، حيث لا يعرف عنهم مسار التزام ديني (لا يرتادون المساجد ولا يقرؤون كتبا ولا ينتمون إلى حركات دينية معروفة). الأغلبية الساحقة من الجهاديين في داعش التحقوا بسرعة بالجهاد وسوقه، وانتقلوا فجأة من حياة الإجرام والتحلل الأخلاقي إلى حمل السلاح والمتفجرات وإعلان الحرب على الجميع.