بقلم : توفيق بو عشرين
يختلف عيد ميلاد الملوك عن عيد ميلاد «رعاياهم»، حيث الأول يصبح حدثا عاما منذ اليوم الذي يرى فيه ولي العهد/مشروع الملك النور، أما الثاني فيظل خاصا مهما كانت مكانة صاحبه. عمر الجالس على العرش ليس ملكا له وحده، ولهذا يحتفي المواطنون مع ملوكهم، ويحزنون معهم.
الملك الذي يُطفئ الشمع فوق حلوى كبيرة أو صغيرة، ويتلقى هدايا ثمينة أو رمزية، لا يبقى محصورا في دلالات المناسبة الشخصية، ولا في ترقب حبات الرمل وهي تنزل سراعا من ساعة العمر، بل يلتفت إلى آثار أعوامه المنقضية على جغرافيا وتاريخ بلده، على ما قام به وما لم يقم به، على الفرص التي اقتنصها والفرص التي ضاعت منه. الزمن في السياسة مثل النهر، لا تستطيع أن تغرف منه مرتين.
يحكي أحد مستشاري الملك محمد السادس كيف أنه حاول أن يقنعه في بداية حكمه بحضور القمة العربية، التي عقدت في الأردن في 27 مارس 2001، وذلك ليسجل حضوره وزعامته في الخريطة العربية، فكان جواب الملك الشاب آنذاك أن قال: «لن أحضر هذه القمة العربية، ولا أريد أن أكون زعيما هناك.. البحث عن الزعامة سيُصبِح ممكنا حينما يدخل السائح الأوروبي من إسبانيا إلى شمال المغرب، فلا يجد فرقا بين جنوب إسبانيا وشمال المغرب، عندها فقط أكون زعيما».
هكذا كان يفكر محمد السادس يوم جلس على عرش آبائه وأجداده، كان طموحه أن يربط بلاده بالتاريخ الحي للعالم، ومملكته بأوروبا، أغنى قارة في الكون، لكن، وكما يقول المثل المغربي: «العين بصيرة واليد قصيرة»، مازالت أرجل المغرب مكبلة بأغلال من حديد رغم المجهودات الكبيرة التي بذلت، والإنجازات التي تحققت. مازال التقليد يجثم على صدر نظامنا السياسي، ويمنعه من التطلع إلى محاكاة النظم الملكية في أوروبا، ومازال الريع يأكل في نظامنا الاقتصادي، ويمنعه من إنتاج الثروة والشغل والكرامة، ومازال الفقر ينخر عظام 12 مليون مغربي، ويمنعهم من تحقيق الحد الأدنى من الآدمية، ومازالت البطالة تمس %20 من الشباب المتعلم، وتدفع بهم إلى قاعة انتظار بسعة بلد بكامله.
«نحلة واحدة لا تصنع العسل»، يقول المثل، ولهذا فإن القصر يحتاج إلى شركاء لا إلى أجراء، إلى حكومة قوية لا إلى موظفين مطيعين، إلى مستشارين يقولون الحقيقة لا إلى جلساء يرددون ما يعجب الحكام، إلى مؤسسات لا إلى منشآت، إلى نخب سياسية مقنعة، لا إلى نخب مولوية خانعة، إلى مواطنين لا إلى رعايا، إلى رجال ونساء أعمال، لا إلى سماسرة يقتنصون الفرص في الحدائق الخلفية للمخزن الاقتصادي.
نعم، ورث محمد السادس تركة ثقيلة عن حكم الحسن الثاني، لكن أسلوب الحكم إلى الآن لا يفعل أكثر من تحديث التقليد، وعصرنة التقليدانية، وتلميع المحافظة، وهذا ما يضيع الوقت والجهد في بلاد تحتاج إلى نهضة كبيرة وإقلاع سياسي واقتصادي واجتماعي كبير. نعم، الملك الإنسان نحج في أن يقترب من شعبه، وأن يحس بفقرائه، وأن يحتك بمجتمعه، وأن يختلط بشبابه، وأن يجد لغة جديدة للحديث معهم، لكن نظامه مازال ينظر من أعلى إلى الشعب. مازال ينظر من فوق إلى الأمة، مازال يحرس التقاليد البالية، مازال يضيق بالدستور الجديد، مازال يتخوف من الديمقراطية الكاملة… إلى درجة أن أصبحنا أمام صورتين مختلفتين للمؤسسة؛ صورة الملك الإنسان، حيث شعبيته كبيرة والرضى عنه فاق من سبقه بكثير، وصورة نظام يعطي صورة مناقضة لقائده… فن التواصل قائم على تناغم الرسائل وعلى انسجام الصور وعلى تناسق الرموز، وإلا فإن الضباب سيعم البلاد.
في بداية حكم الملك محمد السادس زار مسؤول أروبي الرباط، وسمع العاهل الشاب منه إطراء لوالده الملك الراحل الحسن الثاني، ودوره في الدبلوماسية العالمية، وكيف أنه جعل المغرب معروفا في كل الدنيا، فكان رد الملك محمد السادس: «صحيح أن والدي، رحمه الله، وضع المغرب في خرائط كل العالم، ولكني أنا أريد أن أضع المغرب في قلب كل مغربي»، بهت المسؤول الأوروبي من هذا الجواب الذي لم يكن ينتظره من ملك حديث عهد بالملك.
مازالت الفرص أمام الملك لإحداث التغيير المنشود مع شعبه، وخاصة في هذا الظرف العصيب، حيث العولمة تعولم كل شيء.. الأحلام والكوابيس، السلام والحرب، التحضر والتوحش، التقدم والتخلف، التعايش والإرهاب… كل شيء قابل للتصدير والاستيراد في عالم بلا حدود، وقريبا بلا خرائط.. عيد ميلاد سعيد.