بقلم : توفيق بو عشرين
الضربة التي لا تقتل الديمقراطية تقويها.. هذه القاعدة تسري على البشر وعلى النظم السياسية كذلك، حيث تدفعها الأزمات والمحن إلى اكتشاف حريطة أصدقائها وأعدائها، ومعرفة مواطن القوة والضعف فيها… الانقلاب الفاشل في تركيا أظهر حيوية الشعب التركي، وشجاعته في الدفاع عن الشرعية النابعة من صندوق الاقتراع، وأظهر جدية الأحزاب السياسية في الدفاع عن هوية البلاد الديمقراطية، حيث لم يخلط اليمين واليسار والقوميون الأكراد بين عدائهم لأردوغان ووفائهم للديمقراطية، لكن هذا الانقلاب التركي الفاشل نجح في كشف النفاق الغربي، والأمريكي تحديدا، إزاء الالتزام بدعم النظم الديمقراطية والحكومات الشرعية. في الساعات الأولى للانقلاب، وقبل أن تظهر بوادر فشله، لم يخرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ولا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ولا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ولا الاتحاد الأوروبي ببيان واضح جلي يدين الانقلاب، ويجرم الإطاحة بحكومة شرعية وبرلمان منتخب، كل ما فعله قادة “العالم الحر” أنهم دعوا إلى التهدئة وإلى تجنب إراقة الدماء، معلنين أنهم يراقبون الوضع عن كثب، ممسكين العصا من الوسط، بل منهم من بدأ يحمل أردوغان مسؤولية الانقلاب على حكومته، مثل ما فعلت شبكة cnn التي استدعت مخبرين متقاعدين وعسكريين إلى “بلاتو” الأخبار، والذين وصفوا ما يجري بأنه “انتفاضة يائسة من شعب لا أمل له في حكومته”، بل إن السفارة الأمريكية في أنقرة أصدرت بلاغا ملتبسا تتحدث فيه عن بوادر اندلاع ثورة في الساعات القليلة التي أعقبت تلاوة البيان العسكري في التلفزة التركية الرسمية، وهو ما دفع أصواتا كثيرة في تركيا إلى اتهام أمريكا بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الفاشل، ومعرفتها المسبقة بخطط قادته. بعد أكثر من ثلاث ساعات على الانقلاب (الذي لم تدنه القوى الكبرى عندما لم يكن معروفا نجاحه من فشله)، خرج أوباما بتصريح يدعم الحكومة المنتخبة بعدما تأكد أن طاجين الانقلاب احترق، وأن أكثر من أربعة ملايين تركي نزلوا إلى الشوارع لحماية تجربتهم الديمقراطية، عندها فقط أعلن دعمه للحكومة الشرعية ورفضه للانقلاب الفاشل، وتبع أوباما جل القادة الأوروبيين ولسان حالهم يقول: “للأسف، فشل الانقلاب”. بعد يوم واحد تحول أوباما وهولاند وميركيل وموغريني إلى أساتذة في دولة الحق والقانون، واستأنفوا تقديم الدروس في ضرورة احترام قرينة البراءة، وعدم الانتقام من قادة الجيش المشتبه في وقوفهم خلف الانقلاب، وضرورة عدم التوسع في ملاحقة تنظيم الخدمة المزروع في كل مفاصل الدولة، أما 300 مواطن الذين قتلوا في المحاولة الانقلابية فلا يوجد ناطق باسمهم لأن الموتى لا يتكلمون.
ليس من حق المنافق السياسي أن يعطي دروسا في العقيدة الديمقراطية، كما ليس من حق العاهرة أن تعطي مواعظ في الشرف. أمريكا، وجل دول أوروبا الغربية للأسف، لا توجه المبادئ سياساتهم الخارجية، بل المصالح هي التي تقود قراراتهم وسياساتهم إزاء الدول الأخرى، وهذا ما يوقعهم في تناقضات بلا حصر حول خطابهم الذي يسير في واد، وأفعالهم التي تمشي في واد آخر تماما.
الذين انقلبوا أو دعوا إلى الانقلاب على أردوغان وحزبه لم يفعلوا ذلك لسيئاته بل لحسناته… الذين يكرهون أردوغان في الغرب لا يفعلون ذلك لأنه حاكم يركز السلطة في يده، ولا لأنه يميل إلى التضييق على معارضيه، بل لأنه حاكم يدافع عن استقلالية القرار في بلاده، ولا يمشي مع السياسة الأمريكية في كل الملفات، ولا يداهن إسرائيل في كل المواقف، ولا يفتح قواعده العسكرية للغرب دون قرار من برلمان بلاده، ولا يسكت عن حصار غزة وقتل الفلسطينيين بالتقسيط المريح للضمير الأخلاقي للغرب!
أردوغان هو ثاني زعيم تركي بعد أتاتورك ترك وسيترك بصمات قوية في تاريخ بلاده التي انتقلت من حال إلى حال مغاير تماما، وهذا تشهد عليه أرقام البنك الدولي، ونسبة النمو الكبيرة التي تحققت على مدى 14 سنة من حكم العدالة والتنمية، حيث تضاعف الناتج الداخلي الخام، وارتفع معدل دخل التركي مرتين، وتقلصت نسبة الفقر والفساد، وأصبح لأنقرة إشعاع إقليمي ودولي كبير. نعم، وقع أردوغان في أخطاء كثيرة، ومنها التضييق على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والسعي إلى تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي، والميل إلى احتكار السلطة بين يدي القائد الواحد، لكن الشعب التركي مازال معه، وقد أعطاه الأغلبية مرات عدة في انتخابات شهد العالم بنزاهتها، وهو يتكئ على شرعية الإنجاز، وعلى مشروعية مصالحة تركيا مع تاريخها وثقافتها، وإذا تعب منه الأتراك فسيسقطونه في صناديق الاقتراع وليس تحت عجلات الدبابات.
في العديد من البلدان لا تجتمع الديمقراطية مع الليبرالية، كما هو حاصل في أمريكا وأوروبا الغربية، لأسباب كثيرة اجتماعية وثقافية وتاريخية، ومن ثمة لا يجب الخلط بين الأنظمة الاستبدادية التي تحكم خارج أي تفويض شعبي، كما هو حاصل في جل الدول العربية والإفريقية، وبين الأنظمة الديمقراطية غير الليبرالية، التي لا تزاوج بين آليات الحكم الديمقراطي ومضمون السياسات الليبرالية التي تقدس الحرية الفردية والجماعية، ولا تجعلها موضوعا خاضعا لتقلبات الأقلية والأغلبية.