بقلم : توفيق بو عشرين
باستثناء تونس، البلد العربي الصغير الذي يعيش تجربة تحوّل ديمقراطي صعبة ومعقدة، كل البلدان العربية الأخرى جالسة في قاعة انتظار كبيرة. التنمية معطلة، والديمقراطية مؤجلة، والإصلاح يراوح مكانه. وحدها الأجهزة الأمنية ووسائل الدعاية من تشتغل على تأبيد الوضع على ما هو عليه، وتلقيح الشعوب ضد الربيع العربي وقيمه، بتخويف المواطن من الإرهاب والطائفية وعدم الاستقرار والحرب الأهلية، لكن هذه الأنظمة التي تخوّف شعوبها من هذه الكوابيس لا تصنع شيئاً سوى تهييئ المناخ النموذجي لعدم الاستقرار. لهذا، يجب إعادة التفكير في روافع جديدة (des leviers) لإحياء مشروع الإصلاح العميق للدولة العربية.
لا بد من أن ينصبّ الرهان العربي، هنا والآن، على إعادة كتابة عقد اجتماعي جديد، يُعول فيه على الشباب والثقافة والتعليم والإعلام الجديد والمقاولة.
الشباب، باعتباره قوة صاعدة، متحرّرة إلى حدّ ما من قيود الماضي وثقافته وتسوياته وعقلياته.. رأينا كيف أن تمرين الربيع العربي نجح في إظهار نتائج باهرة لقوة الشباب، ولفعالية الضغط في الشارع، والتحرّر من التخندقات الأيديولوجية الجامدة، وهذا ما أزعج الحاكمين من الحراك العربي، فالسلطة، أي سلطة، لا تُصلح نفسها بنفسها، بل لا بد من وجود ضغطٍ عليها، وحركة معاكسة لها، لكي تتحرّك عجلة الإصلاحات داخلها.
التعليم والثقافة، وهما الفريضتان الغائبتان في العمل السياسي وتفكير الأحزاب والجماعات، وهموم جل النخب التي تتصارع حول المقاعد والمواقع والامتيازات، وتنسى القاعدة الخلفية لنهوض المجتمعات. صار هناك اليوم شبه تواطؤ على ترك التعليم على حالة بئيسة.
باستثناء الإسلاميين والدولة، فإن الجميع غائبٌ عن زرع الثقافة في المجتمع، وطلب الهيمنة الإيديولوجية في قاع هذا المجتمع، على حد تعبير المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، على الرغم من أن العمل الثقافي يتجاوز الأهداف السياسية إلى مسيرةٍ طويلةٍ من البناء الفكري والرمزي والفني والأدبي الذي يتجه إلى بناء المعنى وتشييد المفاهيم الإنسانية العميقة المتصالحة مع التاريخ ومع العصر في آن، العصر الذي نعيشه، متطلعين إلى المساهمة في بناء حضارته العالمية، لا كمستهلكين ومتفرجين.
الرهان على الإعلام الجديد المحمول على شبكة الإنترنت، في هواتف الجيوب وحواسيب المكاتب والمنازل والمدارس والجامعات، ليس فقط لقدرة هذا الإعلام الجديد على تبليغ الرسائل، وربط الناس بالمعرفة، وجمع المواطنين خارج الروابط التقليدية من عائلةٍ وقبيلةٍ وعشيرةٍ ومذهب، وإيجاد مجالاتٍ واسعةً للتواصل والاتصال والتفاعل والتعبير والقبول والرفض والاحتجاج، وقول نعم ولا. الرهان على الإعلام الجديد وشبكاته وعوالمه هو رهان كذلك على زرع جينات المعاصرة في عقولٍ ولدت مكبلةً بألف قيد وقيد، هو رهانٌ على تعزيز ثقافة الفرد في المجتمع العربي، الفرد الذي ينشئ صفحة على "فيسبوك"، ويضع عليها اسمه وصورته وتعليقه. ينشئ لنفسه هويةً جديدة هو الذي يختارها، ويعبّر عن وجوده بطريقته، ويحصل على مكبّر صوت كبير، يصل إلى الآلاف والملايين. وأكثر من هذا، يخرج هذا المواطن الرقمي من الافتراضي إلى الواقعي، ومن الواقعي يرجع إلى الافتراضي. وهذا الذهاب والإياب، وهذا الاحتكاك بآراء أخرى وثقافات أخرى ولغات أخرى هو الذي يحرّض على الفعل والمشاركة السياسية، ويُخرج الشباب من السلبية والاستسلام للواقع.
الرهان على المقاولة وثقافة المقاولة وفرص المقاولة، بما هي وعاء لنشاط الطبقات الوسطى، ولتنمية الثروة، والخروج من الفقر وثقافة الفقر والاستجداء وطلب العون وانتظار الريع النازل من فوق. المقاولة، بما هي حقل استنباتٍ لثقافة التنافسية والمخاطرة المحسوبة، والاحتكام لقانون السوق، ومقاومة تسلط الإدارة، ودعم المبادرة الخاصة، وعدم انتظار الحكومة، أو الدولة، لتُنعم على الشاب بوظيفة في القطاع العام، لا تنتج قيمةً مضافةً في غالب الأحيان. المقاولة لا تنتج فقط الثروة ومناصب الشغل، بل تحرّر الإنسان من الارتهان إلى الدولة التي أصبحت تفرض سطوتها على الإنسان في كل مجالات الحياة.
يقول نابليون: "لا نحكم شعباً من الشعوب، إلا إذا كنا دليله إلى المستقبل".