بقلم توفيق بو عشرين
حلت يوم أمس الذكرى السوداء لأحداث 16 ماي، حيث ضرب الإرهاب بقوة قبل 13 سنة بالدار البيضاء، منهيا حكاية الاستثناء المغربي، إذ دخلت المملكة، منذ ذلك التاريخ الذي سقط فيه أكثر من 30 قتيلا بين شهيد وانتحاري، في حرب مفتوحة مع خلايا نشطة وأخرى نائمة كلها تستهدف زعزعة الاستقرار، وزعزعة ثقة المواطنين في الدولة، من خلال القيام بعمليات انتحارية في أماكن مختارة تتعمد القتل والترويع وبث الخوف في النفوس، وبقية القصة معروفة.
الإرهاب ليس فقط جريمة، وليس فقط إراقة دم بغير حق أو شرع أو قانون.. الإرهاب مشروع قائم على فكر متطرف عنيف إقصائي لا يؤمن بالاختلاف، ولا بالوسائل السلمية لتحقيق أهدافه، وقائم، ثانيا، على بشر، وتحديدا شباب، يجري غسل أدمغتهم وقلوبهم ونفوسهم حتى يتحولوا إلى قنابل موقوتة، وعبوات مبرمجة للانفجار في توقيت دقيق وأماكن مختارة، والإرهاب، ثالثا، قائم على تمويل ولوجستيك وأدوات يتم صنعها محليا أو استيرادها من الخارج، والإرهاب، رابعا، سياسة وامتدادات وعلاقات خارجية وسفراء، ورسائل دموية يبعثها الإرهاب إلى الداخل والخارج في توقيت محسوب وزمن معلوم.
إن نجاح قوات الأمن المغربية في مطاردة خلايا الإرهاب، وإبطال مفعولها من خلال مراكمة تجربة مهمة في مجال الاستخبارات وتحليل المعلومات واختراق البنيات ورصد التحركات، كل هذا النجاح يجب ألا يحجب عنا أن المغرب مازال، بعد 13 سنة على الاكتواء بنار الإرهاب، بلدا منتجا للإرهاب ومصدرا للإرهابيين.
هناك أزيد من 2500 مغربي يقاتلون في صفوف داعش، وحوالي 300 آخرين يقاتلون في صفوف جبهة النصرة وأحرار الشام، وغيرها من الفصائل التي تقاتل اليوم نظام الأسد، وغدا ستمر إلى قتال دول وأنظمة ومجتمعات عربية ومغاربية أخرى، وفي السنة الماضية وحدها فكك المكتب المركزي للأبحاث القضائية أكثر من 29 خلية إرهابية، حسب تصريح رئيس هذا المكتب عبد الحق الخيام، فعلى مدى الثلاث عشرة سنة الماضية كان المعدل السنوي للخلايا التي يجري تفكيك عناصرها واعتقالهم مرتفعا جدا (حوالي 26 خلية كمعدل). ماذا يعني هذا؟
هذا معناه أن الفكر الداعشي (نسبة إلى داعش) أو القاعدي (نسبة إلى القاعدة) مازال فكرا يستطيع أن يجد له موطئ قدم بين شبابنا، ومازال قادرا على استقطاب آلاف الشباب المغربي إلى مشروعه، ومازالت لديه طاقة جذب مهمة في أوساط معينة، رغم أن المشرع شدد العقوبات الجنائية على الإرهاب أو الانتماء إليه أو تمويله أو حتى الإشادة به.
هذا معناه أننا نحارب الإرهاب اليوم بسلاح واحد تقريبا هو سلاح المخابرات والأمن، فيما بقية الأسلحة إما معطلة، وإما ضعيفة، وإما أنها لا تصيب الهدف، وأعنى بذلك أن سلاح تأهيل الحقل الديني الذي لا يصل إلى المستهدفين منه، أي الشباب الذين يستمعون إلى شيوخ التطرف في «قناة يوتيوب» أكثر مما يستمعون إلى علماء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الذين يعيش جلهم خارج العصر الرقمي والفكر الديني المعاصر، زد على ذلك أن البلاد مخترقة، منذ سنوات، بالتيار السلفي الوهابي الذي يهيئ الأرضية الفكرية والفقهية والمنهجية للسلفية الجهادية والداعشية التي تتحرك في وسط هذا المذهب مثلما يتحرك السكين في قطعة حلوى.
الفشل الثاني المعلن في استراتيجية محاربة الإرهاب هو الفشل في تقليص رقعة الفقر والتهميش، وعدم القدرة على إعطاء أمل للشباب غير المتعلم وغير المندمج في مستقبل أفضل. مازال نظام التعليم دون إصلاح، وسوق الشغل دون محركات، ووسائل الإعلام الرسمية دون جسور مع هذه الفئة التي تتواصل مع مراكز التجنيد الإرهابي في الخارج أكثر مما تتواصل مع مراكز إنتاج الثقافة والفكر والسياسة والرموز في الداخل، وهو ما يجعل من هؤلاء الشباب سفراء للبغدادي والظواهري أكثر من كونهم مواطنين يعيشون بيننا. إنهم يبدؤون في التذمر من الواقع، ويصلون إلى الغضب منه، ثم الانفصال عنه، ثم القطيعة معه، ثم تكفيره، وانتهاء بإعلان الجهاد ضده، أي السعي إلى قتل من يظنون أنه مسؤول عن هذا الواقع الذي يعيشونه، ومعلوم أن السلفية الجهادية قلبت مفهوم الجهاد تحت شعار: «جهاد القريب مقدم على جهاد البعيد».
مازال أمام المغرب طريق طويل لمحاصرة الإرهاب فكريا واجتماعيا واقتصاديا، أي أننا مازلنا لم نصل إلى الخلطة التي نصنع منها وصفة وقائية ضد الإرهاب. ما هو موجود على الطاولة اليوم هو التدخل الجراحي الذي يستعمل مشرط الطبيب بعد وصول داء الإرهاب إلى الجسم، وبعد أن يمر الإرهابي إلى الحركة l’action، أو قبيل ذلك بقليل، لكن السياسي والاقتصادي والديني والثقافي والإعلامي مازال جلهم يتفرجون على تدعيش جزء من شبابنا، والبعض لا يخيفه هذا الأمر، بل يسعى إلى استثماره من أجل تضخيم الخوف في نفس السلطة، ودفعها إلى تخفيف السرعة باتجاه المحطة الديمقراطية، بدعوى أن البلاد محتاجة إلى نظام مركزي ودولة قوية.