بقلم : توفيق بو عشرين
كان الجنرال الفرنسي، شارل دوغول، يوصي وزراءه، قبل الحديث في السياسة الدولية، أن يفتحوا الخريطة أمامهم، ويتطلعوا إلى حقائق الجغرافيا السياسية على الأرض قبل أي قرار أو تحليل أو رأي، ولو عاش الرئيس الفرنسي إلى اليوم فربما كان سيوصي معاونيه بأن يفتحوا خريطة أخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، وهي خريطة التسلّح حول العالم، وفحص رقم معاملات تجارة القتل، وما وراءها من سياسات واستراتيجيات واقتصاديات ومؤامرات وحروب.
هذا الأسبوع، نشر معهدان كبيران، هما المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم وStrategic Defence Intelligence، تقريرين عن مبيعات السلاح في العالم، وعن رقم معاملات تجارة الموت، التي تتجاوز سنويا 2000 مليار دولار، دون احتساب رقم معاملات تجارة السلاح في السوق السوداء، وهي أرقام قد تتجاوز الرقم الأول بحوالي 20%.
في التقريرين معا نقرأ أن المغرب ماض في السباق نحو التسلّح، وأن فاتورته من شراء السلاح الأمريكي والفرنسي والروسي وصلت، السنة الماضية، إلى 3,5 ملايير دولار (حوالي 3,2% من PIB الناتج الداخلي الخام)، في الوقت الذي لا تصرف دولة كبيرة وغنية، مثل فرنسا، سوى 2% من PIB، ناتجها الخام، على فاتورة السلاح، هذا فيما تصرف جارتنا الجزائر أكثر من 10 ملايير دولار على شراء السلاح من روسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا، وهو ما يمثل أكثر من 6% من ناتجها الداخلي الخام. فرغم نزول أسعار النفط، ورغم دخول البلاد في سياسة تقشفية، فإن مشتريات جارتنا من السلاح لم تنزل، وهذا مفهوم، على كل حال، نظرا إلى نفوذ الجيش الجزائري في القرار، ونظرا إلى أن صفقات التسلّح عند جيراننا لا تخلو من فساد وعمولات وأشياء أخرى.
التقريران معا يتوقعان، بالنظر إلى الظرفية الدولية، أن يزداد الإنفاق على التسلّح في المغرب ليصل إلى أربعة ملايير دولار من هنا إلى سنة 2022، والشيء نفسه بالنسبة إلى الجزائر، حيث ستستمر في شراء أسلحة كمية ونوعية، لأن سياستها الدفاعية وتركيبة الحكم فيها تفرضان عليها ملء خزائنها بالسلاح حتى وإن لم تكن بحاجة إليه.
الذي يقرأ التقريرين يلاحظ أن العرب هم أكبر زبائن السلاح في العالم، ومنهم من ضاعف مشترياته 220 في المائة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وهنا تتكشف سياسات الفوضى الخلاقة التي تزرعها أمريكا وأوروبا في هذه المنطقة المدرة حروبها أرباحا خيالية على خزائن الحكومات الغربية، من خلال إنعاش آلة التصنيع الحربي، وتوفير مناصب للشغل، وحصد ضرائب ضخمة من أموال النفط النائمة في خزائن البنوك العالمية.
لنرجع إلى المغرب، حيث لا الحكومة ولا البرلمان ولا الإعلام ولا مراكز البحث تناقش سياسة الدفاع في المملكة، وكأنها طابو محرم على المغاربة الاقتراب منه. وحتى إن فكر أحد في مناقشة هذا الموضوع، فليس أمامه سوى التقارير الدولية، أما في الداخل، فإن الصمت سيد الموقف، وإغلاق صنبور المعلومات هو السياسة المعروفة عن مؤسسة الجيش، في بلاد تصرف أكثر من المعدل الدولي على التسلّح (ميزانية المغرب السنوية حوالي 27 مليار دولار، يصرف المغرب منها 3,5 في المائة على شراء الأسلحة فقط، دون ميزانية التجهيز والتسيير، حسب معهد ستوكهولم).
نعم، سؤال الحرب والسلم هو السؤال الأول في السياسة والقرار، وهو الرهان رقم واحد بالنسبة إلى الحاكم والمحكوم، لكن كل هذا يجب أن يعرض على المؤسسات، وأن يكون محل تشاور وتداول وتفكير جماعي في الحكومة والبرلمان ومؤسسات التفكير الاستراتيجي. بعدها يأتي صاحب القرار ليختار بين بدائل عدة، وسياسات ناضجة، واختيارات واعية. لا يوجد تعارض بين التشاور في سياسات الدفاع والمجال المحفوظ للملك؛ الأول يتصل بصناعة القرار، والثاني يتصل باتخاذ القرار.
سياسة الدفاع لا تقف عند الطائرات والدبابات والصواريخ والجنود.. استراتيجية الدفاع تبنى، أولا، بأدوات سياسية ودبلوماسية، وبالتموقع الجيد في الخريطة الدولية، والعمل على تقليل الأعداء، وزيادة الحلفاء، ثم تبنى سياسة الدفاع وحماية السلم والحفاظ على الأرض والسيادة والمصالح عبر تقوية الجبهة الداخلية، وتعزيز المسار الديمقراطي في بلاد لا نفط فيها ولا غاز.. بلاد اختارت الليبرالية سياسة، والرأسمالية اقتصادا، والشراكة مع أوروبا دبلوماسية. إذن، نحن لسنا روسيا ولا الصين ولا السعودية… ثالثا، سياسات الدفاع اليوم تفكر في المخاطر الجديدة، حيث لم تعد التهديدات تأتي من جيوش بلدان أخرى، ومواجهات بين عساكر، بل أصبح الخطر قادما من منظمات non étatiques غير حكومية، كما أن التهديدات لم تعد تمس فقط الأرض والجو والبحر، بل صارت الأخطار تمس مواقع هشة ومفتوحة، بل ومكشوفة لم يكن العلم العسكري التقليدي يهتم بها. صارت المدن والمنشآت المدنية عرضة للخطر، وأضحى الهجوم على شبكة الاتصالات والنيت cyber-attaques، مثلا، أكثر كلفة من مهاجمة ثكنة عسكرية أو نقطة حدودية.
هذه الأرقام والمعطيات تسمح بنظرة أخرى إلى موضوع النزاع في الصحراء، وإشكالية التطبيع مع الجزائر، وإخراج هذه الأخيرة من دائرة معاداة المغرب، التي سجنت نفسها فيها لعقود طويلة. دورنا هنا هو مساعدة الجار العنيد على الرجوع إلى منطق العقل وإلى مقاربة التعاون، عِوَض أن يجرنا هو إلى منطق السباق المجنون نحو التسلّح.
المصدر : اليوم 24